ميّ زيادة والبحث عن الوطن* مادونا عسكر

النشرة الدولية –

لا أظنّ أنّ ميّ زيادة افتقدت للمعنى المتعارف عليه للوطن، كما أنّي لا أشارك رأي القائلين أنّها كانت تشعر بالغربة طوال حياتها استناداً إلى  قولها في نصّ لها تحت عنوان “أين وطني؟” في مؤلّفها “ظلمات وأشعّة”: “ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمّي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد.” فميّ كانت تعرّف عن نفسها قائلةً: “أنا فلسطينيّة لبنانيّة مصريّة سوريّة”، ولا بدّ من أنّها كانت تعتزّ بكلّ من هذه الأوطان. إلّا أنّ ميّاً كانت تبحث عن وطنٍ آخر، أبعد  من الحدود الجغرافيّة وأعمق من مفهوم الأرض المحتضنة. وفي سؤالها (أين وطني؟) خفايا هذا البحث الدّاخليّ الّذي يسعى إليه كلّ مفكّر متى اكتشف في داخله أبعاده الكونيّة. إنّه البحث عن الذّات ببعدها الكونيّ.

“عندما ذاعت أسماء الوطنيّات، كتبت اسم وطني ووضعت عليه شفتيّ أقبّله، وأحصيت آلامه مفاخرة بأنّ لي كذوي الأوطان وطناً. ثمّ جاء دور الشّرح والتّفصيل فألممت بالمشاكل الّتي لا تحلّ، وحنيت جبهتي وأنشأت أفكّر. وما لبث أن انقلب التّفكّر فيّ شعوراً، فشعرت بانسحاق عميق يذلّني، لأنّي دون سواي، تلك الّتي لا وطن لها.” الوطن الحقيقيّ الّذي كانت تبحث عنه ميّ هو الوطن الدّاخليّ العميق في النّفس والوطن الكونيّ اللّامحدود، وقد تكون في لحظات خاصّة وحميمة فكّرت في جذورها وانتمائها لوطن محدّد إلّا أنّ ما بين السّطور يبرز غربة من نوع آخر، غربة إنسانيّة تنتج عن الارتقاء إلى عالم الفكر والأدب والفنّ. الغربة عن العالم بأسره، عن تفاصيل الواقع الّتي ما يلبث المفكّر والأديب والفنّان أن يكتشف سخافتها وعبثيّتها فيمضي  أكثر فأكثر في اغترابه ويحيا حالة اللّاانتماء إلى هذا الواقع بالضّرورة. ما يخلق لديه شعوراً بالأسى والألم؛ لأنّه يطلّ على هذا الواقع بنظرة أخرى ويرنو إليه من علوّ كقول درويش في (لاعب النّرد):

لولا وقوفي على جَبَل

لفرحتُ بصومعة النّسر: لا ضوء أَعلى!

ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذّهب الأزرق اللّانهائيِّ

صعبُ الزيارة: يبقى الوحيدُ هناك وحيداً

ولا يستطيع النّزول على قدميه

وفي هذه الغربة القاسية يزداد الإنسان بحثاً عن الوطن الحقيقيّ. ميّ، دون سواها، تلك الّتي لا وطن لها وحيدة في علوّها وتبقى وحيدة ولا تستطيع النّزول على قدميها. وفي نصّها البديع (أين وطني) الّذي يبدو في الظّاهر شعوراً حزيناً باللاانتماء إلى جغرافيا محدّدة، إلّأ أنّه يبدو في الحنايا العميقة لاانتماءً إلى العالم بواقعه المرير والتّعيس غالباً فتقول ميّ: “ولكنّ الشّعوب تهمس همساً يطرق مسمعي: فهؤلاء يقولون أنت لست منّا لأنّك من طائفة أخرى، ويقول أولئك أنت لست منّا لأنّك من جنس آخر. فلماذا أكون، دون سواي، تلك الّتي لا وطن لها؟”، وفي هذا القول معانٍ كثيرة تبيّن غربة الإنسان عن الإنسان، كما تبيّن انتماءه الواهم إلى وطن حقيقيّ. فلفظ (الشّعوب) شامل يترادف والإنسان بشكل عام، والتّمييز الطّائفيّ والعنصريّ  يفعل في الدّاخل الإنسانيّ عميقاً ويؤذي إنسانيّته فيشعر بالغربة وهو في وطنه الجغرافيّ. وتذهب ميّ أبعد من ذلك لتبحث عن لغة مشتركة بينها وبين العالم: “بأيّ اللّهجات أتفاهم والنّاس، وبأيّ الرّوابط أرتبط؟ أأتقيّد بلغة جماعتي وهي، على زعمهم، ليست لي ولم توجد لأمثالي؟ أم أكتفي بلغة الغرباء وأنا في نظرهم متهجّمة عليها؟ أأصون عادات قديمة يحاربها اليوم النّاهضون أم أقبل الأساليب الحديثة فأكون لسهام المحافظين هدفاً؟”.

إنّ ميّاً الّتي ناقشت الأدباء والمفكّرين لا يعوزها لغة تفاهم على المستوى الأدبيّ والفكريّ، وإنّما مراد قولها إنّها وهي الممعنة في تفاصيل الواقع وتقلّباته والتباسه وقسوته تفتقد للغتها الخاصّة واقعيّاً. لا بدّ من أنّه أصبح لميّ لغتها الشّخصيّة كنتاج للتّأمّل والتّفكير المستمرّ وهي الّتي لطالما عاشت في عالم المثل. لكنّ الواقع مختلف تماماً عن عالم المثل، عالم الأفكار والقيم. وهنا تصطدم بلغة العالمين. “سطت عليّ اليدُ الحديديّة، ومزّقتني  يد “الإخوان”، وانفضّ من حولي “المخلصون” لأنّهم إنّما خلقوا لمساعدة نفوسهم.”

لا ريب أنّ ميّاً  تلمّست جوانب الإنسان المظلمة حتّى وإن كانت تحيا في عالم المثل، بيد أنّ الأمر أشدّ إيلاماً لمن هم في حالة من الوعي والنّضج والارتقاء. وفي قولها تعبير عن إحساس بالوحدة نتيجة مكائد وتخلٍ من أقرب النّاس إليها. ما يزيد من الغربة والألم. تبحث ميّ عن وطن الإنسان، عن انتمائه إلى إنسانيّته، وعلى الرّغم من المحيطين بها، إلّا أنّها على ما يبدو لم تجد الوطن الّذي ينبغي أن ينتمي إليه كلّ إنسان بعيداً عن الصّراعات والنّزاعات. فتعبّر في نهاية النّصّ قائلة:

“جرَّبتُ من الوطنيّات صنوفًا: وطنيّة الأفكار والأذواق والميول.

وتلك الوطنيّة القدسيّة المثلى: وطنيّة القلوب.

فوجدتُ في عالم المعنى ما عرفته في عالم الحسّ.

إلّا بقعة بعيدة تفرَّدت فيها الصّور وتسامت المعاني.

ثقَّفني أبناءُ وطني، وأدَّبني أبناء الأوطان الأخرى.

وأسعدني أبناء وطني، وأسعدني الغرباءُ أيضًا.

ولا ميزة لأبناء وطني في أنهم أوسعوني إيلامًا.

فقد نالني من الغرباء أذًى كثير.

فبأيّ الأقيسة أقيس أبناء الوطن؟

ولماذا أكون أنا وحدي تلك الّتي لا تدري أين وطنها؟”

إن صحّ أنّ ميّاً تفتقد لانتماء وطنيّ جغرافيّ لما قالت (ولماذا أكون أنا وحدي تلك الّتي لا تدري أين وطنها؟)  لأنّها ليست الوحيدة الّتي تشكو من هذا الأمر، فكثيرون ابتعدوا عن أوطانهم وشعروا بالغربة.

يتكرّر لفظ (وطني) في هذا النّصّ سبع مرّات، وتتردّد عبارة (لا وطن لها) خمس مرّات. وما بين تحديد الوطن والسّؤال عنه تبحث ميّ عن هويّتها الوجوديّة الكونيّة المرتبطة بالوطن الإنسان، بالوطن المترفّع عن كلّ الأوطان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى