غطرسة أردوغان تعيد تركيا إلى سلوك الماضي المظلم* نيكوس كونستانداراس
النشرة الدولية –
أمر الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول ببناء آيا صوفيا سنة 537 للميلاد، ثم افتكّها محمد الثاني في غزواته سنة 1453 م، وحوّلها إلى مسجد ومنع استخدامها لأغراض أخرى، ثم حوّلها أتاتورك إلى متحف سنة 1934م. وعبّأ أردوغان المحكمة بالموالين له، مما سرّع تحويلها إلى مسجد. وهو يعتبر نفسه الفاتح.
عندما يبقى موقع تاريخي شامخا لأكثر من 1500 سنة، يصبح رمزا لكل البشر. ويجب أن ندرك أن سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تتجاوز مجرّد إبقاء بصمة في تاريخ آيا صوفيا. لكنه سيبقى علامة فارقة في تراجع تركيا المتسارع عن القرن الحادي والعشرين.
لم يكن قرار المحكمة التركية بإلغاء تحويل أتاتورك لآيا صوفيا من مسجد إلى متحف مفاجأة. وكانت السرعة التي وقع بها أردوغان الأمر لتحويل شؤون المَعلم إلى رئاسة الشؤون الدينية التركية متوقّعة. ومع ذلك، وعلى الرغم من اليقين من أن الرئيس التركي سيحاول حشد مؤيديه بهذه الطريقة وإهانة المسيحيين في كل مكان، وخاصة في اليونان، أعترف أنني فوجئت بالحزن والغضب الذي أثاره القرار في نفسي. لا تنبع هذه المشاعر من حقيقة أنني يوناني ومسيحي فقط، على الرغم من أن هذا يلعب دورا بالتأكيد.
ما أجده غير معقول هو إصرار رجل واحد على الاستمرار في انتهاك الحدود والقواعد والقوانين والاتفاقيات والحقوق، ثم تصعيد ذلك عن طريق الدوس على السلوكيات المتحضرة، وإزعاج منطقة بأكملها، ودفع شعبه إلى الوراء.
نجد الكثير من المنشقين الأتراك في السجن، وفي المنفى، مجرّدين من الحق في العمل والحصول على الضمان الاجتماعي. وتبقى وسائل الإعلام والمجتمع تحت سيطرة صارمة. وبينما خفّف أردوغان من الضغط على الأكراد في البداية، ضاعف صراعه معهم في السنوات القليلة الماضية، محاولا الاستفادة من الانقسام في المجتمع، وحشد دعم المتطرفين القوميين.
إنه يتصرف مثل القائد العظيم، وكما لو كانت تركيا قوة عظمى. لكن سلاحه الرئيسي موجود في أيدي الآخرين، وهو التسامح الذي أظهره المجتمع الدولي له. وإذا استمر هذا، سيصبح سلوكه وحشيا أكثر، حيث يعتمد على قاعدة من التطرف القومي والديني.
كان مهندسو آيا صوفيا من الوثنيين ومن أبناء المدرسة الأفلاطونية بالإسكندرية. وأتموا بناء الكنيسة العظيمة في أقل من ست سنوات وجرى افتتاحها في 27 ديسمبر 537. وفي 538، انهارت القبة وأعيد بناؤها. ومنذ ذلك الحين، شهدت أضرارا على مدى القرون.
بُنيت آيا صوفيا قبل فترة طويلة من الانقسام بين المسيحية الشرقية والغربية (1054)، وكانت أكبر وأهم كاتدرائية في العالم المسيحي قبل أن تصبح رمزا للأرثوذكسية. وأذكر هذا التاريخ لأشير إلى طبيعة الكنيسة “متعددة الثقافات”، وأهميتها لكل المسيحية، وحقيقة أنها شهدت الكثير حتى قبل سقوط القسطنطينية في 1453 وتحويلها إلى مسجد.
بقي المعلم كنيسة لـ916 سنة، ومسجدا لـ482 ومتحفا لـ85. وأصبحت آيا صوفيا في بداية فصل جديد من تاريخها. إلا أنها ستبقى رمزا للمسيحية والنموذج الذي بنى عليه المعماريون الأتراك العظماء تصميماتهم للمساجد الكبرى. ولكنها ستمثل زمنًا ضائعا حاولت فيه تركيا مواكبة بقيّة العالم. ومع إعادة تسميتها مسجدا، فإنها ستشهد عودة تركيا إلى سلوك الماضي المظلم. إن تبرير تحويلها الجديد بنتاج “غزو” القرون الوسطى هو دليل على ذلك.
وقد تكمن المفاجأة الوحيدة في أن أردوغان لعب هذه الورقة في وقت مبكر، دون محاولة ابتزاز المجتمع الدولي أكثر، مثلما رأيناه يفعل باستغلال المهاجرين واللاجئين، وغزو أراض أجنبية، وانتهاك حدود جيرانه وحقوقهم، مع دعم الإسلاميين المتطرفين، وما إلى ذلك من الممارسات.
يأتي دعم أردوغان الأقوى من الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين (إلى الحدّ الذي تقوّض فيه تركيا الناتو)، ويعتمد على تسامح الدول الأخرى، وخاصة المنتمية منها إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن الأمر قد يختلف هذه المرة، حيث تجاوزت غطرسته جميع الحدود بالنسبة لها.