لا بدَّ من وضع هذا الوباء تحت السيطرة* جون إم. باري

النشرة الدولية –

عندما تمزج بين العلم والسياسة، لا تحصد نهاية الأمر سوى السياسة. وفي مواجهة وباء فيروس «كورونا»، أظهرت الولايات المتحدة أمام الجميع أنَّ السياسة لم تجد نفعاً. وإذا كنا الآن بصدد إعادة فتح الاقتصاد والمدارس – الأمر الذي يمكن إنجازه بالفعل – يجب أن نعود أدراجنا إلى العلم. ومن أجل إدراك مدى سوء الأوضاع داخل الولايات المتحدة، والأهم من ذلك ما الذي ينبغي فعله حيالها، يتعيَّن علينا عقد بعض المقارنات.

في وقت كتابة هذا المقال، فإنَّ إيطاليا التي كانت في وقت من الأوقات بمثابة رمز يجسد الدمار الذي يخلفه وباء فيروس «كورونا»، التي يبلغ عدد سكانها ضعف سكان تكساس، أصبح متوسط عدد الإصابات الجديدة اليومية بها قرابة 200 حالة. في المقابل، نجد أن معدل الإصابات اليومية في تكساس يتجاوز 9.000 حالة.

وبالمثل، نجد أن ألمانيا التي يقدر عدد سكانها بأربعة أضعاف سكان ولاية فلوريدا، تسجل يومياً أقل عن 400 حالة إصابة جديدة. على الجانب الآخر، نجد أن فلوريدا سجلت، مؤخراً، أكثر من 15.300 إصابة، في أعلى حصيلة إصابات يومية بأي من ولايات البلاد.

في خضم ذلك، أعلن البيت الأبيض، من جانبه، أنَّ البلاد عليها تعلم كيفية التعايش مع الفيروس. إلا أنه في واقع الأمر عندما تقع الإصابات اليومية بمعدلات تشبه ما يجري في إيطاليا أو ألمانيا، ناهيك بكوريا الجنوبية أو أستراليا أو فيتنام (التي لم تسجل أي منها حالة وفاة حتى الآن)، فإن الوضع يكون مختلفاً تمام الاختلاف عن الحال، عندما تتسم الولايات المتحدة بأعلى معدل تزايد في الإصابات الجديدة على مستوى العالم، متجاوزة بذلك حتى البرازيل.

من ناحيتها، أقدمت إيطاليا وألمانيا وعشرات الدول الأخرى على إعادة فتح اقتصادياتها بصورة شبه كاملة، ولديها أسبابها المنطقية التي تدعوها لفعل ذلك، فقد تعاملت جميع هذه الدول مع الفيروس بجدية وتحركت على نحو حاسم، ولا تزال تفعل ذلك. على سبيل المثال، أصدرت أستراليا للتو قرارات غرامة بإجمالي 18000 دولار، بسبب حضور عدد كبير للغاية من الأشخاص حفل عيد ميلاد في أحد المنازل.

على الجهة المقابلة، نجد أنه داخل الولايات المتحدة، اتفق خبراء الصحة العامة على نحو أقرب إلى الإجماع على أن محاكاة النجاح الأوروبي يستلزم أولاً: الإبقاء على حالة إغلاق حتى نحقق منحنى هبوط حاد في أعداد الإصابات. ثانياً: تحقيق التزام واسع النطاق بالنصائح المتعلقة بالصحة العامة. ثالثاً: بناء قوة عمل مؤلفة من 100.000 شخص على الأقل ـ بعض الخبراء رأوا أن الحاجة تستدعي الاستعانة بـ300.000 ـ لاختبار الحالات وتعقبها وعزلها.

ومع ذلك، نجد أننا على المستوى الوطني لم نقترب حتى من تحقيق أي من هذه الأهداف، رغم نجاح بعض الولايات في ذلك والتي شرعت الآن في إعادة فتح اقتصادياتها بحذر وسلامة. إلا أن هناك ولايات أخرى تأخرت كثيراً على هذا الصعيد، ومع ذلك أعادت فتح اقتصادياتها على أي حال. واليوم، نعاني تداعيات ذلك.

وفي الوقت الذي سجلت فيه مدينة نيويورك يومها الأول منذ شهور من دون وفيات بسبب فيروس «كورونا»، يتنامى الوباء عبر 39 ولاية. داخل مقاطعة ميامي – دادي في فلوريدا، وصلت 6 مستشفيات الحد الأقصى في قدراتها الاستيعابية. وفي هوستون، التي تشهد واحدة من أسوأ موجات تفشي الوباء على مستوى البلاد، دعا مسؤولون الحاكم لإصدار قرار بفرض حظر التجول.

وبجانب التزايد الهائل في أعداد الإصابات في الكثير للغاية من الولايات، نعاني اليوم من النقص ذاته الذي عانته المستشفيات في مارس (آذار) وأبريل (نيسان). في نيو أورليانز، ثمة نقص بالغ في معدات الاختبار، لدرجة أنَّ أحد الأماكن المخصصة لإجراء الاختبارات بدأ إجراء الاختبارات الثامنة صباحاً، لكن المعدات المتوافرة لديه لم تكفِ سوى الأشخاص الذين اصطفوا حتى السابعة و33 دقيقة صباحاً.

في الوقت ذاته، فإنَّ الاختبارات في حد ذاتها لا تجدي شيئاً يذكر، من دون توافر البنية التحتية اللازمة، ليس فقط لتعقب المخالطين والاتصال بالمصابين المحتملين، وإنما كذلك متابعة ودعم من تأتي نتائج اختباراتهم إيجابية ويخضعون للعزلة، إضافة إلى آخرين يشجعهم الأطباء على ضرورة البقاء قيد الحجر الصحي. إلا أنه في الكثير للغاية من الحالات لم يتحقق ذلك. على سبيل المثال، تشير الأرقام إلى أن 17 في المائة فقط ممن جاءت نتائج اختباراتهم المتعلقة بالفيروس إيجابية في ميامي، أنجزوا استبياناً للمعاونة في تعقب الأشخاص الذين اختلطوا بهم، رغم كون مسألة تعقب المخالطين أمراً حيوياً في إبطاء وتيرة تفشي الوباء. واليوم، أصبحت ولايات كثيرة تضم أعداداً كبيرة للغاية من الحالات لدرجة جعلت مسألة تعقب المخالطين أقرب إلى المستحيل.

والآن، ما الحل؟ تبقى إجراءات التباعد الاجتماعي وارتداء أقنعة حماية الوجه وغسل الأيدي والحجر الصحي الذاتي، عناصر تتسم بأهمية محورية. واللافت أنَّ قليلاً من الاهتمام جرى توجيهه لضرورة توافر تهوية جيدة، رغم أهمية هذا العنصر كذلك. ومن الممكن تركيب إضاءات تعمل بالأشعة فوق البنفسجية في الأماكن العامة. ومن شأن الأمور سالفة الذكر الحد من انتشار الوباء. وأخيراً، رأينا الرئيس ترمب يرتدي قناعاً لحماية الوجه، الأمر الذي قد يسهم في نزع الصبغة السياسية عن هذه المسألة. إلا أنه في ظل الوضع الراهن، فإن جميع هذه العناصر معاً، وحتى مع الالتزام واسع النطاق بها، ليس بمقدورها سوى التخفيف بعض الشيء من التوجهات الحالية الخطيرة للوباء. الحقيقة أن الفيروس بلغ درجة من التفشي واسع النطاق، لدرجة أن مثل هذه الإجراءات لم يعد باستطاعتها تحقيق تحول سريع في مسار المنحنى باتجاه الأسفل.

في الوقت ذاته، فإن إعادة فتح المدارس على النحو الأكثر أماناً، الأمر الذي ربما يكون في حكم المستحيل ببعض الحالات، ودفع عجلة الاقتصاد نحو العمل من جديد بكامل قوتها، يستلزم منا دفع أعداد الإصابات نحو التراجع إلى مستويات يمكن التعامل معها – على غرار المستويات التي بلغتها دول أوروبية.

والمؤكد أن تهديد إدارة ترمب بحجب التمويل الفيدرالي عن المدارس التي لا تعيد فتح أبوابها، لن يجدي في الوصول إلى هذا الهدف.

في الواقع، إنجاز ذلك الهدف لن يفلح فيه سوى العمل الحاسم في المناطق التي تشهد نمواً هائلاً في أعداد الإصابات – على أدنى تقدير، يجب فرض قيود على التجمعات الخاصة، وفرض إجراءات إغلاق انتقائية والتي يجب أن تشمل ليس فقط الأهداف الواضحة مثل الحانات، وإنما كذلك الكنائس التي باتت تشكل مصدراً للتفشي واسع النطاق للوباء.

وتبعاً للظروف المحلية، ربما لا تكون تلك الإجراءات كافية، وتصبح هناك ضرورة لفرض حالة إغلاق شامل على غرار ما حدث في أبريل. ويمكن اتخاذ مثل هذا القرار على أساس من مقاطعة لأخرى، لكن تظل الحقيقة أن أنصاف الإجراءات لن تجدي شيئاً، سوى الحيلولة دون انهيار المستشفيات بصورة كاملة تحت وطأة الضغوط . كما أن أنصاف الإجراءات ستترك معدلات تفشي الوباء عند مستويات أعلى بكثير عن تلك السائدة في الدول الكثيرة التي نجحت في احتوائه. وستترك أنصاف الإجراءات كذلك الكثير للغاية من الأميركيين لا يتعايشون مع الوباء، وإنما يموتون بسببه.

جدير بالذكر في هذا الصدد أنه أثناء تفشي وباء الإنفلونزا عام 1918، أغلقت جميع المدن تقريباً جميع نشاطاتها. واضطلع الخوف ورعاية أفراد الأسرة المرضى بالباقي. وتجاوزت معدلات التغيب عن العمل حتى داخل الصناعات المتعلقة بالحرب 50 في المائة، وشكلت بذلك ضربة موجعة للاقتصاد. وأقدم كثير من المدن على إعادة فتح اقتصادياتها في وقت مبكر للغاية لتجد نفسها مضطرة لإعادة غلق أبوابها مرة ثانية ـ وفي بعض الأحيان مرة ثالثة. وواجهت مقاومة شرسة في خضم ذلك، لكن في النهاية جرى إنقاذ الأرواح.

ولو كنا اتخذنا الإجراءات الصائبة منذ بداية أزمة الوباء، لكانت المدارس اليوم تستعد لإعادة فتح أبوابها أمام عام دراسي شبه طبيعي، وكانت أندية كرة القدم تستعد لخوض منافساتها ـ ولم يكن عشرات الآلاف من الأميركيين قد ماتوا.

الآن، نقف أمام فرصتنا الثانية، لكن المؤكد أننا لن نحظى بفرصة ثالثة. إذا لم نضع تفشي هذا الوباء تحت السيطرة الآن، فإنه في غضون أشهر قليلة عندما يصبح الطقس بارداً ويجبر الناس على المكوث في أماكن مغلقة لفترات أطول، قد نواجه كارثة يتضاءل أمامها الموقف الذي نواجهه اليوم.

 

– بروفسور في جامعة تولين الأميركية

– بالاتفاق مع «بلومبرغ»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button