لبنان ذاكرة الكوكب الأزرق* يوسف طراد
النشرة الدولية –
يقول ألكسي كارل الحائز على جائزة نوبل في الطبّ العام ١٩١٢: “الجمال ينبوع لا ينضب لمن يعرف اكتشافه”. يرحل التاريخ عبر الزمن ويبقى الأثر في بصمات الأمكنة. بجهدٍ كبيرٍ واستنادًا إلى مئةٍ وإثنين وعشرين مرجعًا وضع العالِمان رئيف ملكي وجورج بوينز تحفةً فنيةً بالغة الأهمّية بين أيدينا مترجمة في كتاب (العنبر اللبناني) الصادر عن المنشورات التقنية والذي يحوي دراسة وافية عن العنبر اللبناني الذي تكوّن بفعل أقدم نظام إيكولوجي للحشرات في الصمغ المتحجر.
بعد فهرس المحتويات ندخل الكتاب عبر عتبة (تمهيد) بعنوان (قصّتي مع العنبر اللبناني) بقلم البروفيسور رئيف ملكي. ضمن هذا المقطع تعريف للعنبر النباتي وهو المادة الصمغية اللزجة تفرزها الأشجار الصنوبرية وتلتقط الأجسام التي تلامسها من حشرات وعناكب ونبات ويُسمّى كوبال، والعنبر (كريس) هو إفرازات داخل أمعاء حوت العنبر تستعمل لتثبيت رائحة العطور. أيضًا ضمن التمهيد شرح لاعتقادٍ خلال العصر البرونزي والحديدي بأن العنبر يزيل المرض ويبعد الشر ويمكن استعماله في الحياة الأخرى، كما هنالك إضاءة على تجارة الفينيقيين بالعنبر اللبناني وقد قايضوه بالمعادن الثمينة ومنها البرونز، تجارة العنبر ترجع إلى أكثر من ٥٠٠٠ عام إذ وجدت قطع مصنّعة منه في قبور المصريين منذ عام ٣٢٠٠ ق.م. من ضمن التمهيد أيضًا مقطع (رحلتي مع العنبر) الذي حدّد فيه رئيف خوري رحلته مع العنبر وكيفية التوصّل إليه بجهدٍ فرديٍ في السفوح اللبنانية.
ضمّ التمهيد أيضًا مقطع (الأقدم في العالم) حيث تبرز عظمة لبنان وتمييز الخالق له. فقد ورد ضمن السرد ملخّص نشره عالم ألماني في المتحف البريطاني للعلوم الطبيعية أن العنبر اللبناني يرجع عمره إلى ١٢٠-١٤٠ مليون سنة، فهو الأقدم في العالم، هنالك فارق زمني كبير بينه وبين شبيهه العنبر البلطيقي والعائد لـ٣٥-٤٠ مليون سنة خلت. أمّا المقطع الأخير من التمهيد بعنوان (جوراسيك بارك) هي قصّة التواصل مع الدكتور بوينز من جامعة كاليفورنيا في بيركلي ورحلة ملكي إلى جامعات أميركا مصحوبًا بموافقة من وزير الداخلية في لبنان لنقل المنقرضات من مطار بيروت وإدخالها إلى الولايات المتحدة الأميركية مع ٦٠٠ قطعة من العنبر داخل كلّ منها حشرة أو أكثر. فقد عمل ملكي مع الدكتور بوينز المرموق عالميًا بمؤلّفاته وكتبه عن العنبر والذي قام بدور استشاري لمؤلّف كتاب (جوراسيك بارك). خلال الدراسات سمّيت إحدى المنقرضات المكتشفة على اسم لبنان واسم عائلة ملكي (lebanobythus milkii).
التوطئة بقلم الدكتور آرثر بوكوت (قسم الحيوان جامعة أوريغون) يضيء فيها على أشجار الكوري الأسطورية العملاقة في لبنان ما قبل التاريخ والتي أفرزت كميات غزيرة من الصمغ وحصرت معظم الحشرات المنقرضة قبل مرحلة التحوّل إلى العنبر بواسطة العوامل الطبيعية. بعد المقدّمة نصل إلى مقطع (المظاهر العلمية للعنبر اللبناني)، يتضمّن المقطع الأهمّية العلمية لهذا العنبر الثمين الذي هو أهمّ كنوز الطبيعة في لبنان والذي يعود إلى الفترة الطبشروية (Cretaceous) وذلك عندما كان لبنان جزءًا من قارة غوندوانا الكبرى قبل زحف القارات وبعده عند تشكيل أرض لبنان على كتف البحر المتوسّط، وكما يرد في النصّ أن جميع المتحجّرات الموصوفة في الكتاب تُعتبر منقرضة حاليًا على مستوى النوع(Species) ومعظمها على مستوى الجنس (Genus) كما يضم المقطع خريطة للوطن اللبناني مع أماكن وجود العنبر في الترسّبات وحدّد أيضًا عمر العنبر اللبناني المقدّر بحوالي ١٣٠ إلى ١٤٠ مليون سنة. دراسة العنبر اللبناني ودائمًا حسب الكتاب عملية صعبة للغاية لا تخلو من التحدّي فالحصول عليه ممل جدًا ومن الصعب تمييزه عن باقي الترسّبات إلّا بعد الخبرة. غابات شجر الكوري الأسطورية العملاقة ولّت بما احتوته من منشور حضري كثيف وقد استبدلت بنوعٍ نبيل من عاريات البذور هو أرز لبنان الأشهر (Cedrus libanais) فإن سجل أحافير الأرز يمتدّ إلى فترة ازدهار صنوبر كوري المنقرض، هكذا خصّ الخالق لبنان بهذه الشجرة الرمز. أمّا بالنسبة إلى الحشرات فإن أغنى مجموعة فراشات توجد في منطقة الأرز ودائمًا حسب الدراسة الواردة في الكتاب. توصّل البروفيسور ملكي إلى ثابتة علمية جيولوجية هي أن العنبر الذي يعود أصله لغابات كوري العتيقة مدفون على ارتفاع ١٨٠٠ متر عن سطح البحر في منطقة بقاع كفرا شمالي لبنان بشكل تراكمات صغيرة تحت آخر ما بقي منتصبًا من الأرز اللبناني. كما تضمّنت الدراسة الواردة في الكتاب على مجموعة ٧٥ نوعًا من العنبر ضمن ٦٣ جنسًا و٣٤ عائلة حيث تمّ وصف أربع شعب حيوانية محبوسة ضمن العنبر وهي (الديدان Mematoda والنواعمMolluska والمفصليات Arthropoda والفقريات vertebrata) كما نظّم ثمانية جداول غنية بالتصنيفات الحيوانية وأنواع الراتينغ بالإضافة إلى أربعٍ وستين لوحة مصورة في كلّ لوحة تظهر حشرة أو أكثر ضمن كلّ حجر عنبر مستخرج من سفوح لبنان مع وصفٍ مسهب لهذه الحشرات بالنسبة لنظام تغذيتها (دم أو نبات) وشكلها وحجمها (أجنحة وقوائم) وطريقة تزاوجها، أغلب هذه الحشرات تقترن تسميتها باسم لبنان إما لأنها اكتشفت بلبنان أو لأنها غير موجودة إلّا فيه، على سبيل المثال لا الحصر هدبية الذنب فإن العنبر اللبناني يحتوي على أقدم ما عرف من أنواع هذه الحشرة وهو النوع المسمّى (Cretaceomachilis libanensis).
حسب الصفحة ٨١ إن جميع الأنواع و٩٣% من أجناس الحشرات التي تمّ وصفها في العنبر اللبناني تعتبر منقرضة على نقيض ٤٢٣ جنسًا الموصوفة في العنبر الدوميناكي فإن ٩٢% منها ما تزال باقية، من هنا تأتي أهمّية العنبر اللبناني في الدراسات المتعمّقة قبل وبعد زحل القارات. الملفِت أيضًا في هذه الدراسة أن بعض قطع العنبر بحجم قبضة اليد توجد في مادة اللجينت(lignit) في مواقع ضمن منطقة المتن، وهي مناسبة لصناعة الحلي، يُرجّح بأن يكون الفينيقيون استخدموا هذه المادة للتجارة، هذه المعلومات نقلًا عن كتاب (ثلاثة أشهر إلى لبنان) الذي صدر عام ١٨٧٦ للباحث أوتوفراس.
اِتّصف كتاب (العنبر اللبناني) بلغة علمية بحتة كونه احتوى دراسة إيكولوجية عن العنبر اللبناني مما يجعل القارىء الذي لا يهتمّ بهكذا نوع من الأبحاث يمل من المطالعة إلّا إذا كان في قلبه شيء من حبّ الوطن عندها يعانق فكره السطور في تعايش ثقافي علمي وطني طالبًا المزيد من المجد المدوّن في هذه الدراسة القيّمة والفريدة.
ذاكرة الكوكب الأزرق مسؤولية مَنْ؟ هل يختصّ الحفاظ عليه بوزارة الثقافة من خلال إدخال هذه الدراسة في المناهج التعليمية حسب مستوى المراحل؟ أو بوزارة البيئة، لتنظيم دراسة أثر بيئي لكلّ رخصة مقلع أو جاروشة أو معمل تتضمّن وجود أم عدم وجود ترسّبات ممكن احتوائها على عنبر وعدم منح رخص تشحيل أشجار ضمن الغابات الصنوبرية.
قد لا يستحق الحزن على هذا الكنز الثمين الندب في حضور الفرح الباقي بين الصخور والغابات الخالدة لأن هذا الفرح في خطر لانتفاء الثقافة البيئية، فقد نُقلت أخبار من أحد المزارعين مفادها أنه خلال الحرب الأهلية قُطعت أشجار الأرز واستُعمل خشبها لصناعة صناديق لتوضيب التفّاح، علّ هذه الحادثة لا تتكرّر