لبنان: الجامعات المسؤولة إجتماعياً حاضنة لطلابها: علمياً، بحثياً وإقتصادياً* د. سهام رزق الله

النشرة الدولية –

وسط اشتداد الأزمة الاقتصادية، يحتدم البحث عن ترجمة التضامن الاجتماعي، لاسيما في المؤسسات التي تُعنى ببناء أجيال المستقبل، فيما الجامعات المسؤولة إجتماعياً، حاملة الرسالة مسبقاً من منطلق المسؤولية الاجتماعية، التي هي أبعد بكثير من «العمل الخيري» المتمثّل بتخفيض أقساط من هنا وحذف مصاريف زائدة من هناك.. المسؤولية الاجتماعية للجامعات لها مرتكزات ثلاثة: المستوى العلمي الرفيع، الذي يعطي تصنيفاً دولياً يسمح لحامله بالاعتراف بشهادته في كل بقاع الأرض. ومستوى بحثي، يجعل العلوم في خدمة الاستجابة لحاجات المجتمع، وإيجاد حلول لمشاكله وتسجيله بصمة عالمية من نتاجها. فضلاً عن الخدمة الاقتصادية للأفراد والمجتمع، من خلال المساهمة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة. فماذا يعني بالعمق مفهوم المسؤولية الاجتماعية للجامعات اليوم، وكيف يُترجم، لا سيما في جامعات عريقة حملت همّ الشباب اللبناني في الحرب والسلم، بالبحبوحة وبالأزمات، وجعلت قيمها الانسانية البوصلة الأساسية لبناء وطن على أسس سليمة من العيش معاً، وجعلته منارة على قدر نور شعلة شبابه الواعد.

مع تنامي الأسئلة عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات وخصوصاً منها المؤسسات التربوية، وتحديداً الجامعات من بينها، لا سيّما مع أهداف الميثاق العالمي للأمم المتحدة، الذي تخطّى المسؤولية الاجتماعية للشركات لتشملَ وفقَ معايير أيزو 26000 مختلف المؤسسات العامة والخاصة والمنظمات غير الحكومية التي لا تبتغي أساس الربح، لا بدّ من تفنيد الركائز الثلاث للمسؤولية الاجتماعية للجامعات: التعليم، الأبحاث العلمية، وخدمة المجتمع، من خلال المساهمة في التنمية المستدامة و»الحدّ من أوجه عدم المساواة الاجتماعية».

المسؤولية الاجتماعية

في البداية، لا بدّ من توضيح الفَرق بين المسؤولية الاجتماعية و»العمل الخيري». اذ غالباً ما يختلط الاثنان في ذهن المجتمع، لا سيما في الأزمات، حيث الحاجة الملحة لترجمة المساعدة بدعم مالي سريع مباشر، بغض النظر عن السلّة الاجتماعية التنموية الشاملة ونوعية الخدمات المقدّمة. لا شك أنّ «العمل الخيري»، مثل المساعدة المالية وتأمين الِمنح الدراسية وتخفيض الأقساط لمن هو غير قادر على تسديدها كاملة، يندرج من ضمن استراتيجية المسؤولية الاجتماعية، ولكنه وحده لا يحقق المسؤولية الاجتماعية التنموية المطلوبة، ما لم يترافق مع سلة الركائز الضرورية. كما أنّ تحقيق الهدف العاشر للأمم المتحدة المتمثّل بتخفيف «أوجه عدم المساواة الاجتماعية» لا يكون بالدعم الشامل العشوائي للجميع بشكل متشابه، بل بأخذ في الاعتبار قدرة كل فرد وخلق روح التضامن، التي تجعل الأكثر قدرة يساهم في تعزيز وضع الأقل قدرة، بما يعزز المساواة ويحقق التنمية المستدامة والانسجام في النسيج الاجتماعي للوطن والعدالة، في الحصول على فرص التقدّم وتحسين أوضاع العائلات وفق جهود شبابها والتزامهم بالقيم الانسانية التي تتخطّى كل أنواع الفروقات الاجتماعية.

المستوى العلمي المعترف به دولياً

ويمثّل التعليم العالي إحدى الركائز الأساسية التي تقدّمها الجامعات لخدمة المجتمع، من خلال إعداد الكوادر والرأسمال البشري المتمكّن من المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة على الصُعد العلمية والاقتصادية والاجتماعية. ويكون على الجامعات التأكّد من أنّ التوصيات العلمية التي تَصدر عن ندواتها ومؤتمراتها تَشمل النواحي البيئية والاجتماعية والأخلاقية لمختلف أعمالها. فالبحثُ العلمي ضروري لجعلِ المعلومات في خدمة المجتمع وتحسينِ نوعية الحياة. وبالتالي لا تكون المعلومات المنقولة نظرياً غريبة عن الواقع، فلا تكتفي الجامعات بنقلِ المعطيات الأكاديمية بغضّ النظر عن التمكّن من تطبيقها.

ويتبيّن، أنّ أبرز نواحي المسؤولية الاجتماعية للجامعات تتجلّى في إعداد مواطنين منتِجين ومسؤولين، وتشجيعِ الشراكة والمشاركة الفاعلة في صلبِ المجتمع المدني، وتنميةِ الكفاءات وتحقيق التوجيه المناسب نحوها. هذه الناحية من التعليم العالي تشكّل أحدَ أبرز مستلزمات التزام الجامعة تجاه المجتمع. من هنا نَفهم دور جامعات البلدان المتقدّمة في تشجيع طلابِها على التفكير في سُبل خدمة المجتمع على الصعيد العالمي، ولا سيّما التي في البلدان النامية، بما يفسِح في المجال أمام الحوار وتلاقي الثقافات المتنوّعة.

أولى مسؤوليات الجامعة هي تقديم تعليم رفيع المستوى معترف به عالمياً ومصنّف دولياً، بحيث تؤمّن الشهادات أوسع الفرص للمتخرجين على أوسع نطاق. فلا تكون صادرة عن «دكاكين» لا يُعرف إسمها ولا يُعترف بها في أي نقطة في الكون، فيكون الطالب هدر وقته وماله سدى، ويضطر الى إعادة التسجيل في أي إختصاص من جديد في مؤسسة معروفة لتأمين فرصة عمل مناسبة.

فالمستوى التعليمي بحدّ ذاته هو مسؤولية إجتماعية بما يحمل من هدف تكوين رأسمال بشري لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسين مستوى العيش. وهنا أهمية الجامعات المسؤولة إجتماعياً في ضمان تكافؤ الفرص التعليمية للجميع، وخصوصاً الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة والفئات الأقل إمكانيات مادية ومعنوية، بسبب أي ظروف مالية أو عائلية وظرفية في البلاد.

ويُطلب من الجامعات ألّا يقتصر تدريبها وأبحاثها الأكاديمية على متطلبات واحتياجات سوق العمل، بل عليها تشجيع المناهج المتنوعة والمنهجية التي تحدّد الروابط بين العلوم العملية والعلوم الاجتماعية. في الوقت نفسه، تسعى الجامعات الى إدراج توصيات الميثاق العالمي المتصلة بالأثر البيئي والاقتصادي- الاجتماعي، فضلاً عن الأخلاقيات المهنية والتنموية لمختلف نشاطاتها.

كما أنّ الجامعات هي التي تَصنع المستقبل، وبالتالي تقع عليها مسؤولية جعلِ «شهاداتها مسؤولةً إجتماعياً» بحِرصها على: إعداد نظام الإدارة الجيّدة، واستخدام الطاقات المتجددة، حسن إدارة النفايات وإعادة تدويرها، وضع استراتيجيات التنمية المستدامة، العمل على تعزيز روح المبادرة، الابتكار والتكنولوجيا، تنمية مواهب الطلاب ليكونوا مواطنين منتِجين، حسنِ إدارة الموارد البشرية لتشجيع وتوجيه الجهود نحو العمل التطوعي، وتنميةِ المجتمع… كلّ ذلك يَدفعنا للقول، إنّ جامعات اليوم هي جامعات المجتمع، لأنّها تعيش تحدّيات وحاجات المجتمع، كما فرَصَ وطموحات المجتمع.

وثمّة نشاطات جامعية عديدة من شأنها المساهمة في المسؤولية الاجتماعية، مِثل: توجيه البحث العلمي نحو المجالات التي تلبّي حاجات المجتمع ومختلف العملاء الاقتصاديين، تنظيم مؤتمرات علمية، التبادل الأكاديمي، النوادي الثقافية، منتديات الحوار، المعارض والمنتديات الثقافية والوطنية، دورات الإعداد والتدريب والتعليم المستمر، ورَش العمل الاقتصادية- الاجتماعية والثقافية في مختلف البرامج، حلقات الحوار والنشاطات التي يتمرّس فيها الطالب على التواصل مع المجتمع (المؤسسات العامة، الشركات الخاصة، الهيئات المحلية في البلديات وجمعيات ومنظمات غير الحكومية…) ليتبلوَر له كيفية استخدام ما يتعلّمه في خدمة المجتمع الذي ينمو فيه.

البحث العلمي والتطبيق العملي

البحث العلمي ضروري لوضع المعرفة في خدمة المجتمع وتحسين نوعية حياة السكان. وبالتالي، لا يمكن إجراء البحث بشكل مستقل عن احتياجات المجتمع والحاجة إلى استخلاص الاستنتاجات اللازمة التي تسمح باستخدامه لحلّ المشكلات (القانونية والاقتصادية والطبية والحضرية والبيئية والتعليمية والثقافية. .) من أجل تحسين رفاهية ومستوى معيشة الناس.

إلّا أنّ هذه الإنجازات تتطلّب وضعَ ورقةِ عملٍ استراتيجية لتحقيق المسؤولية الاجتماعية للجامعات، وتشكيلَ هيئةٍ تُراقب المسؤولية الاجتماعية، وتحديدَ الأفرقاء المعنيين بمختلف البرامج وتوقّعاتهم من مختلف برامج المسؤولية الاجتماعية المطروحة، وإعدادَ الدراسات والأبحاث المناسبة لها.

وبذلك تكون الجامعة مساهمةً في بناء المواطنية المسؤولة اجتماعياً، من خلال إدراج حاجات المجتمع ومفاهيم الحياة العامة في صلب الحياة الجامعية بالنشاطات الصفّية وغير الصفّية. كما مِن خلال تمكينِ المتخرّجين من التعامل مع مختلف تقنيات التواصل والبحث والحوار وتبادل الأفكار وترجمتها لإنجازات في خدمة المجتمع بكافّة مكوّناته وفئاته العمرية والاجتماعية والثقافية…

وهكذا يكون مشروع المسؤولية الاجتماعية للجامعات مساهِماً في تحقيق التنمية والترويج للنواحي الاجتماعية للتعليم العالي. وهكذا تكون المسؤولية الاجتماعية للجامعات متّسمةً بروح المواطنية والتنمية المستدامة، ومنطبعةً بكون التربية خدمةً عامةً والتزاماً تجاه المجتمع الذي تنشَط فيه، ناشرةً لمختلف السياسات والممارسات التي من شأنها تحقيق الازدهار والتنمية وفرَصِ العمل والتقدّم وتحسين مستوى العيش وخلق واحةً لفتح آفاق المنافسة نحو تقديم الأفضل وجعلِ البحث العِلمي في خدمة التطبيق العَملي.

بالنتيجة، لا تكون المسؤولية الاجتماعية للجامعات فصلاً في درس أو مشروعاً في جملة نشاطات أو قسماً من هيكلية المؤسسات، إنّما قيمة راسخة في استراتيجيتها ينبغي أن تُترجم في مختلف أوجه رسالتها.

المواطنية وخدمة المجتمع

تعتمد مسؤولية الجامعة تجاه المجتمع على فكرة أنّ دور الجامعة لا يقتصر على توفير التعليم المناسب للأشخاص الأكفاء في مختلف مجالات النشاط، ولكن تدريب المواطنين المسؤولين القادرين على الاندماج بسهولة في المجتمع، والتمرّس على الديمقراطية والتعاون مع الآخر، لبناء وطن أفضل للجميع. وخدمة المجتمع، هي واحدة من الركائز الرئيسية لرسالة ورؤية العديد من الجامعات المسؤولة إجتماعياً في جميع أنحاء العالم، ومنها طبعاً في لبنان، وفي طليعتها جامعة القديس يوسف، التي تميّزت في أدائها المسؤول إجتماعياً بين مختلف الجامعات الفرنكوفونية في الشرق الأوسط وفي اتحاد الجامعات الكاثوليكية وفي الميثاق العالمي للتنمية المستدامة للأمم المتحدة.

تبقى الإشارة، الى إنّ المسؤولية الاجتماعية للجامعات هي الفسحة الأولى للتمرّس على المسؤولية الاجتماعية في مختلف المؤسسات وعلى نطاق الوطن بشكل عام. أما الرهان الأساس للتقدّم في هذا المجال، فيتطلّب الالتزام بالمعايير المعتمَدة لقياس المسؤولية الاجتماعية للجامعات الدولية، والتي تشكّل نموذجاً تحتذي به كبرى الجامعات في لبنان، لتؤسس شبكة أمان للوطن ولأجياله القادمة، في القيم والمبادئ التي تحفظ كرامة الانسان وحقة بالمستوى العالمي اللائق، لفرص عمل لاحقة تؤمّن التنمية المستدامة والتقدّم الدائم.

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى