عندما تتداخل الصحافة مع أشياء أخرى* حمزة عليان
النشرة الدولية –
الحديث عن وجود إعلاميين في الصحافة الكويتية يعملون لأطراف خارجية أشبه بالدخول في حقل ألغام، والكلام عن “صحافة مؤجرة” وأخرى تمول من الخارج هو أيضاً يتجاوز حدود السقف، فمن الصعب التعميم في مثل تلك الحالات ووضع الجميع في سلة واحدة، سواء كان الكلام ينسحب على أبناء البلد من الإخوة الكويتيين أو على الإخوة الوافدين.
ليس بعيداً الكلام عن عهود أنظمة حزب البعث والناصرية وبعض دول الخليج، ففي هذه الساحات عشرات الحالات التي تداخلت فيها الصحافة مع أنظمة المخابرات، ودخل فيها على الخط عدد من الإعلاميين العرب الذين كانت لهم صولات وجولات ومحسوبيات على تلك الجهة أو غيرها.
بمعنى أوضح ظاهرة استخدام الصحافيين لأعمال مخابراتية تخدم هذا النظام أو ذاك موجودة وفيها كتابات ومذكرات وروايات تعج بها الصالونات السياسية والمكتبات، وربما كانت الصحافة اللبنانية خير مثال على ذلك، وفيها كوكتيل غريب عجيب، من الدكاكين المؤجرة لحساب الآخر، وإن كان ذلك مدعاة للفجيعة، من وجهة نظري، لكن الظاهرة تحولت إلى ما يشبه المرض الخبيث والمعدي في المحيط العربي، بحيث باتت الإشارة إليها تأتي من باب إبعاد هذه الكأس المرة عن الديار، لما سببته من مخاطر وحولت أجواء الحريات إلى بؤرة، أساءت وخربت لبنان أكثر مما منحته ميزات.
وحتى لا نضيّع البوصلة، فالواقع العربي لم ينأ بنفسه عن هذا المرض، وإن كان بدرجات متفاوتة حتى إن اختلفت الظاهرة من بلد إلى آخر، فالحقيقة أن ما يفصل عمل الصحافي عن الأعمال الجاسوسية خيط رفيع، ينتهي عند النقطة التي يفترقان بها، فالأول لديه قناة إعلامية مشروعة تخضع لقوانين، يكتب فيها ما لديه من معلومات ويحاسب عليها، في حين أن الثاني يوظف المعلومات لحساب جهاز المخابرات أو الجهة التي يعمل فيها، دون أن نعرف كيفية استغلالها ولمصلحة من؟
الخلط بين الصحافة والجاسوسية أمر وارد، وهناك من أساء إلى المهنة وأغراه المال والجاه وتحول إلى “مخبر” أو “كاتب تقارير”، وليس بعيداً ما فعله صدام حسين بشرائه ذمم إعلاميين في العديد من البلدان العربية، بتوزيع هداياه وعطاياه من سيارات ومزارع ومن بارات ومقاه ليلية!
الاختراق وارد، ليس عند العرب والخليجيين فقط، بل هناك أسماء لمعت في دنيا الصحافة، ظهرت على المسرح فيما بعد بثوب الجاسوسية، فقد أساؤوا إلى أنفسهم وإلى المهنة في الوقت ذاته. ربما كانت طبيعة مهنة الصحافيين بحد ذاتها تمنحهم القدرة على استقصاء المعلومات ودخولهم أماكن قد يصعب على الآخرين الوصول إليها كما هي الحال مع السلك الدبلوماسي في موازاة وجود أشخاص لديهم القابلية للقيام بهذا الدور المزدوج.
أشهر وأخطر صحافي تحول إلى جاسوس، هو كيم فيليبي والده جون فيلبي والملقب “بالشيخ عبدالله” بعد إسلامه عام 1930، وهو ضابط استخبارات بريطاني، عاش طويلا في الجزيرة العربية، والمهم أن كيم فيلبي، عمل كصحافي أثناء الحرب الأهلية في إسبانيا ثم انتقل إلى جهاز M16 البريطاني بوظيفة رفيعة المستوى.
عام 1963 استأنف حياته المهنية في الصحافة من بيروت كمراسل لصحيفة “الأوبزرفر” ومجلة “الإيكونوميست”، وكان عمله في الصحافة بمثابة غطاء لعمله بالمخابرات البريطانية، تم الكشف عنه كعميل سوفياتي وهو في بيروت، هرب إلى موسكو وتوفي فيها.
الطريف في الموضوع أنه عندما تم إبلاغ مدير مكتب التحقيقات الفدرالية في أميركا، بأن أحد كبار رجال M16 كان جاسوساً للروس، أجاب “أخبرهم أن يسوع المسيح كان لديه اثني عشر تلميذا، وكان أحدهم عميلاً مزودوجاً”، طبعاً يقصد يهوذا الأسخريوطي الذي خان يسوع المسيح وسلمه لليهود مقابل 30 قطعة فضة.
لا شك أن أجهزة مخابرات الدول تسعى جاهدة إلى تجنيد “عملاء” لها وهذا يدخل في صميم المهام الوظيفية التي تؤديها، بل إن نجاحهم مشروط بجذب المزيد من العملاء خصوصا من الأوساط الصحافية والإعلامية.
وإن كانت بعض الدخول تخترع تهم “التجسسس” للزج بصحافيين معارضين لها، مثلما حصل في تركيا العام الماضي عندما أقدمت السلطات المعنية على محاكمة اثنين بتهمة التجسس لأسباب تتعلق بالأمن القومي، وفي هذا الشأن قيّدت روسيا العاملين في حقل الإعلام بقانون يجيز تصنيف “عملاء للخارج” كأفراد يعملون لحساب وسائل إعلامية، لذلك ودرءاً للمخاطر أو السقطات التي قد يتعرض إليها بعض الصحافيين والإعلاميين، وإمعاناً في تحصين مواقعهم، وضعت مؤسسات إخبارية قوانين خاصة تحدد ماهية الاستعانة بالمصادر السرية، حيث تشترط تلك المؤسسات في عدد من الحالات أن يخبر الصحافيون الميدانيون رؤساء تحريرهم “بهوية المصدر السري” وعلى الصحافيين الموجودين في الميدان أن يعرفوا هذه القوانين.
اختبارات قاسية يتعرض لها الجسم الصحافي وأبناء المهنة، وفيها امتحان قوي لترسيخ حرية الصحافة وسيادة القانون، ولهذا يمكن القول إنه قد ينجح أحياناً ويفشل في أخرى.
عن الجريدة الكويتية