المرض النفسي العقلي هو الجائحة التالية لكن لندن تغفل المسألة
النشرة الدولية –
تخلف إجراءات الحجر والتسريح المؤقت وخسارة العمل وأطر الحياة اليومية، أثراً سلبياً في الصحة العقلية-النفسية (ويكي هاو.أورغ)
تعلمتُ شيئاً جديداً هذا الأسبوع… وعلّمتُ شيئاً للمشاركين الآخرين في مناقشة استضافها “منتدى الدماغ” (Brain Forum). تعلّمتُ أن أدمغتنا قد يتغير شكلها إذ نتكيف مع العالم الغريب لكوفيد-19.
وتعلّموا مني أن نادين دوريس هي وزيرة الصحة العقلية – النفسية في إنجلترا. والمناسبة كانت دولية، لذا لم يكن كثر قد سمعوا باسمها. وأبدى البريطانيون الذين فعلوا بعض المفاجأة – وهذه عبارة لطيفة لوصف رد فعلهم. فما يعرفونه عنها يتلخص في أنها مؤيدة شرسة لبريكست تعدنا بأن الانفصال سيكون يسيراً جداً جداً وسيجري على أفضل أفضل وجه. وعرفها عدد أكبر منهم كمتسابقة في برنامج “أنا من المشاهير… أخرجوني من هنا”!
ووفق الموقع الإلكتروني لـ”منتدى الدماغ”، “تجمع المناسبة قادة عالميين في العلوم والتكنولوجيا والرعاية الصحية والأعمال بهدف تحسين فهمنا لكيفية عمل الدماغ وتسريع تطبيق ذلك الفهم على الحاجات البشرية”. ولم أحضر المنتدى بأي صفة من الصفات أعلاه بل كناشط في مجال الصحة العقلية ومناصر لها.
وكانت كارمن ساندي، الأستاذة المولودة في إسبانيا ومديرة مختبر علم الوراثة السلوكي في معهد الدماغ والعقل، هي من علّمتني كيف يغيّر الدماغ شكله. فبمرور قرون من الزمن، عُلِّم الأطفال كيف يحتضنون الآخرين ويتواصلون معهم، لا سيما أولئك القريبين منهم. والآن إذ تُعلَّم أدمغة الأطفال الحذر من التواصل مع الآخرين، بما في ذلك خلال وجودهم في المدرسة وحتى في العائلة، ستضطر إلى التكيف مع الأمر. وهذا يغير أدمغة الأطفال. ومن شأن ارتداء الأقنعة وعدم السفر وما شابه أن يترك آثاراً علمية عصبية طفيفة وأحياناً رئيسية.
وكان رئيس الجلسة التي شاركتُ فيها أنا والأستاذة ساندي سفيرة [أحوال] العقل الزميلة آنا ويليامسون، التي قدمت معطى مهماً آخر حول أثر كوفيد-19 لم أكن فكرتُ فيه حقاً. “يعاني الناس المصابون باضطراب الوسواس القهري من هاجس النظافة والجراثيم ويغسلون أيديهم بهوس. وقضوا حياتهم وهم يسمعون أن غسلهم لأيديهم يُعد مشكلة. والآن يبدو أن ذلك جزء من حل أكبر أزمة في العالم”.
ويمكنكم أن تروا مزيداً من المناقشات على موقع “منتدى الدماغ” لكن دعونا، في الوقت الراهن، نركز على نادين دوريس، وزيرة الصحة العقلية والوقاية من الانتحار وسلامة المرضى، وهذا هو لقبها الكامل. لقد وضعتُ للتو اسمها في “غوغل” ونقرت على “أخبار” لأرى أخبارها الأخيرة. وحلّ في الصدارة أحد مقالات التحقق من الحقائق تناول “التناقضات” المزعومة في ما قالته عن إغلاق (حجر) ليستر عندما دافعت عن وزير الصحة مات هانكوك لتشرح تعامل الحكومة مع المسألة. وتلاه موضوع فضحت فيه صحيفة “ليفربول إكو” مزيداً من التناقضات في أمر آخر تحدثت عنه. ثم برز خبر عنها “تعتذر من النساء” في مجلس العموم بسبب إخفاقات كشفتها “مراجعة كامبرلدج”. ومن ثم ظهرت مواضيع عمرها ثلاثة أشهر عن تشخيص إصابتها بفيروس كورونا وعن استقبالها بالتصفيق في مجلس العموم لدى عودتها.
لكن ماذا عن الصحة العقلية؟ أصابني يأس من البحث. أنا مشرف على “مركز مايتري للراحة”، وهو الملجأ الوحيد في بريطانيا لأصحاب الميول الانتحارية. وسألتُ ناتالي هوارث، التي تديره، وتعرف عن الوقاية من الانتحار أكثر من أي شخص آخر عملتُ معه، إن كانت تعرف من هي وزيرة الوقاية من الانتحار. لا. وفي الوقت الذي تلح الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى استراتيجية حكومية مناسبة في شأن الصحة العقلية، لا يبدو أن ثمة استراتيجية كهذه.
لقد شهد كوفيد-19 بالفعل زيادة في مشكلات الصحة العقلية، لكن هذه المشكلات لن تزداد إلا سوءاً حين تحل الأزمة الاقتصادية بعد الأزمة الصحية. هل يتذكر أحد الارتفاع في حالات الانتحار خلال الأزمة المالية العالمية؟ أنا أتذكر. والمصارف تتذكر. ولذا، يحمل مزيد من المصارف الصحة العقلية على محمل الجد أكثر من السابق. وعندما دخلت بورصة لندن نيابة عن الحملة المؤيدة للصحة النفسية التي حملت الشعار “آن أوان التغيير”، عُرِض عليّ مكتب كان يخص رجلاً قتل نفسه، تُرك على حاله منذ وفاته كتذكير لزملائه بالتأمل في مستويات توترهم وحالتهم الذهنية. وقبل وقت ليس طويلاً من الإقفال العام، أقمتُ مناسبة في مصرف “غولدمان ساكس” بلندن، لشكره على تقديم تبرع كبير للجمعية الخيرية “العقل” بهدف إدارة دعم الصحة العقلية للطلاب في 10 جامعات. وكان التبرع قليلاً مقارنة بأموال المصرف لكنه أظهر على الأقل، شأن المناسبة، أنه يأخذ المسألة ورفاه الموظفين على محمل الجد أكثر من ذي قبل.
وفي قانون هيئة الخدمات الصحية الوطنية ثمة التزام يقضي بالتكافؤ بين الصحة العقلية والصحة البدنية. وكنتم ستتوقعون أن بوريس جونسون ومات هانكوك قد يعطيان المسألة أهمية أكثر من مجرد ذكرها بشكل عابر من وقت إلى آخر. وكنتم ستتوقعون أن العاملين في مجال الصحة العقلية قد يعرفون من هي وزيرة الصحة العقلية.
لقد كانت العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام رائعة في عام 2018 حين عينت تيريزا ماي وزيراً مختصاً بالوقاية من الانتحار، في حين استضاف مات هانكوك “قمة عالمية للصحة العقلية”. وألقيت كلمة في تلك القمة أيضاً وخرجتُ منها مقتنعاً بأن الهدف كله كان جعل ماي وهانكوك يبدوان مهتمين بالموضوع بدلاً من إرساء تغيير يُعتد به في الحقيقة. سأخبركم عن مسألة أخرى تعود إلى 2018. وحينها، قدمتْ مراجعة مستقلة لقانون الصحة العقلية أكثر من 150 توصية للإصلاح. وبعد مرور 18 شهراً على صدورها، لا نزال ننتظر إقرارها. أنجزوا بريكست. وابنوا وابنوا وابنوا. فلنمضِ قدماً. أما كلماتهم الثلاث عن الصحة العقلية فكانت مجرد “كلام من أجل الكلام”. والآن، حتى الكلام من أجل الكلام توقف.
بيد أن الحاجة إلى العمل أصبحت أكبر من أي وقت مضى. فخلال الحجر، استطلعت منظمة “عقل”، آراء أكثر من 16 ألف شخص.
وتبين لها أن اثنين من كل ثلاثة (65 في المئة) بالغين يفوق عمرهم 25 سنة وثلاثة أرباع (75 في المئة) الشباب البالغين 13 إلى 24 في المئة ممن يعانون من مشكلة على صعيد الصحة العقلية أبلغوا عن تفاقم المشكلة.
ويقول الآن أكثر من واحد من كل خمسة بالغين (22 في المئة) ممن لم يعانوا سابقاً من مشكلة صحية عقلية إن صحتهم العقلية سيئة أو سيئة جداً.
ومن بين الذين حاولوا الوصول إلى خدمات الصحة العقلية التي توفرها هيئة الخدمات الصحية الوطنية، لم يتمكن واحد من أربعة (25 في المئة) من الحصول على دعم. وثمة واحد من ثلاثة بالغين وأكثر من واحد من أربعة شباب لم يحاولوا الوصول إلى دعم خلال الإقفال العام لأنهم لم يعتقدوا بأن مشكلتهم جدية بما يكفي ليفعلوا ذلك.
وأظهر الاستطلاع الرابط بين الحرمان (العوز) والصحة العقلية السيئة.
فقد قال أكثر من نصف (52 في المئة) من المقيمين في مساكن اجتماعية إن صحتهم العقلية سيئة أو سيئة جداً، ويقول أكثر من الثلثين (67 في المئة) إن صحتهم العقلية ساءت خلال الإغلاق.
كذلك قال أكثر من نصف (58 في المئة) ممن تقل أعمارهم عن 18 سنة ويتلقون وجبات مدرسية مجانية إن صحتهم العقلية سيئة أو سيئة جداً (مقارنة بـ41 في المئة لا يتلقون وجبات مدرسية مجانية)، وقال ثلاثة أرباع (73 في المئة) الأعضاء في المجموعة الثانية إن صحتهم العقلية ساءت خلال الإغلاق.
وفاق تراجع الصحة العقلية والرفاه لدى من سُرحوا تسريحاً مؤقتاً أو غيروا وظائفهم أو فقدوا وظائفهم نسبته في صفوف من لم يتغير وضعهم الوظيفي.
وإضافة إلى الدعوات إلى إصلاح قانون الصحة العقلية، تدعو منظمة “عقل” الحكومة إلى الاستثمار في شكل مناسب في الخدمات المخصصة للمجتمعات الصغيرة، وتوفير شبكة أمان مالي، ودعم الأطفال والشباب، وحماية المعرضين إلى خطر أكثر من غيرهم مثل العاملين على تماس مع العملاء والأشخاص المنتمين إلى مجتمعات إثنية أقلوية صغيرة سوداء وآسيوية وخلافهما، والناس الذين يتعافون بعد خروجهم من المستشفيات، وأولئك الذين فقدوا شخصاً عزيزاً.
هي أجندة (مشروع) ضخمة، وكما قال متحدث في “منتدى الدماغ”، سيكون المرض العقلي “الجائحة الثانية”. وبدأت بعض الحكومات تهتم بالمسألة. أما حكومتنا فلم تبدأ بَعد.