عبق المجد في أرز الباروك
بقلم: يوسف طراد

النشرة الدولية –

جنانٌ مترامية الأطراف، عابقةٌ بالمجد فوق الجبال، زادها الشموخ روعةً وجمالًا حتى أن الزائر الكريم يتأكد أنه في فراديس الخيال، إنها محمية أرز الباروك.

بعد باب المحمية وترحيب حرّاسها ينتعش شوق اللقاء بسحر الغابة على طريقٍ معبدةٍ تتلوى صعودًا عبر سفح جبل يعتمر الهيبة غيومًا. يصلك صوتٌ مهيبٌ عند التخوم كأنه ترانيم رهبان تحمل القرابين لتقدمها للرب على القمم، إنه صوت النسيم يعزف مع شلوح الأرز سمفونيةً سرمدية كُتِبت (نوتتها) بصخور مقببة بهية تختلج بينها جذوع أدواحٍ ضخمةٍ ممتدة الغصون تتلاقى حاملةً أكوازًا مُشرئبة نحو العلاء خلافًا لجميع ثمر الأرض، تؤدي الصلاة الدائمة لروح الرب المرفرف على شذا رائحة الصمغ الفواحة منتظرة جمر قلب عشتار ليتصاعد بخورًا متلاقيًا مع السحر الهابط من السماء.

أوائل الوعر الصاعد بعد عدة منعطفات يمتلكك شعورٌ غير مُفسَّر سببه أرواح ضاجَّة بعبق المكان، أرواح تنتمي إلى طائفة لبنان، تجد نفسك أمام غابة شهداء الجيش اللبناني، هيبة مُسيطرة على المكان كهيبة غابة (فري تاون) مدافن شهداء الهنود الحمر الذين دافعوا عن أرضهم ضد الغزات.

تدخل الغابة غير مُصّدق ما تسمع، أصداء العتابا والميجانا والمواويل تتردّد من زمنٍ جميلٍ غنَّت فيه شحرورة الوادي في سُهيّل (القعق) الذي يمتد غنجًا بين الأفياء حالمًا بعتبات السماء. تزداد الأشجار هيبةً كلما ارتفعنا، هل أن قطر جذوع هذه الشجرات الخلابة هو نسبي مع الارتفاع؟ أرزات منتصبة كالحرّاس على الجبال لا تنام منتظرة نزول الديّان للتربّع على عرشه في وطن الجمال وهي حارسة عرش الرب والدهر ولبنان.

اِنتهى مسير السيارات، ندخل مصيف المير عبر سليلٍ متعرجٍ بين الظلال الوارفة، تنوع فريد من النباتات والأشجار تسجد بعزَّة متباهية في خدمة نضرة شموخ الأرز، شجر اللِّك الشبيه بشجر العفص أو الملول يُمعن في زيادة تنقية الجو النقي ممتصًا شوائب الهواء، الفطريات طعام الحيوانات مخبأها تحت التراب هي سبب نقب الأرض من قبل تلك الحيوانات فيدخل (الأزوت) وتغتني التربة الغنية بالأرزات الصغيرة الحالمة، أعشاب دائمة الإخضرار تغطي مساحات نمو الغابة حافظةً الرطوبة داخل التربة إبّان قيظ الصيف، الورد البري يضيف على المكان روعة الأكوان بثمارٍ حمراءٍ تتراءى من بعيد، وهكذا دواليك كل نوع من الأنواع يؤدّي مهمّته بإتقان خدمةً وجمالًا من دون تضارب الصلاحيات. شلوح أرز متهادية تتمايل أفقيًا كأنها أسرّة أطفال الملائكة حاملةً نقاوةً من روحٍ هابطٍ.

عند العودة تقف على مفترق طريقٍ يؤدّي إلى عين (اللَّجَة)، تسلكه حاملًا حشريةً ورغبةً في رؤية فيضٍ إضافيٍّ من الجمال الساحر، ممر على ضفاف بركةٍ رائعةٍ مرآة للسماء التي لا تشيخ، أين منها بركة المتوكّل؟ تجدُّ السير بإلتفافات بين وديان صاعدة، قبيل القمة زعيق نسور ضربها دوَّار الارتفاع فتهبط من فوق القمم مسرعةً إلى حقول الصخور لاصطياد أفاعي الفردوس. وتأتي المفاجأة من على أكتاف الجبال، نحو الشرق وعلى امتداد البصر سهل رائع إنه سهل البقاع، يرتدي الخضار كساءً، حاملًا مجدًا لا يفنى، نذر اتساعه لبهاءٍ لا تغيب عنه الشمس مستوطنةً هياكل بعلبك مرسلةً حرارتها عبره إلى بحيرة القرعون وجبل حرمون المهيب.

هنا وُلد النشيد، الشاعر رشيد بيك نخلة الذي شرب من مياهٍ بلَّوريةٍ غسلت غصون الأرز متفجرةً نبعًا غزيرًا في بلدته الباروك قد أوحت له ملائكة هذا الفردوس بكلمات خلدت الجمال والعطاء فكان النشيد الوطني اللبناني.

تغادر وفي قلبك غصّة من المغادرة وأنت تودّع أشجارَا ملوّحةً للشمس والنجوم في الأمد القريب البعيد، اشجارٌ هازئةٌ بعاتي الرياح ترقب الثلج المهيب حاملةً السماء والأثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button