الإمبريالية الغربية ونشأة النزعة الاستيطانية اليهودية
بقلم: د. امين محمود
النشرة الدولية –
بدأت الاهتمامات اليهودية الجادة بفكرة استعمار فلسطين واستيطانها منذ اواسط ثلاثينات القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك التاريخ فالصلة بين اليهود وفلسطين كانت في أغلبها مجرد صلة دينية عاطفية، ورغبة لدى بعض الفئات اليهودية المتدينة الإقامة المؤقتة قرب الأماكن المقدسة للتعبد وممارسة الطقوس الدينية. وكان *بعث* الدولة اليهودية مرتبطا لديهم بحدوث المعجزة الإلهية التي سيتمخض عنها مجيء المسيح المنتظر ليقود العالم نحو *الخير والسلام* وذلك بعد *عودة* اليهود الى *ارض الميعاد* و *اعادة* بناء هيكل سليمان فوق الصخرة المشرفة.
ولذلك فلا غرابة إذا كانت فكرة استعمار فلسطين وتأسيس دولة يهودية فيها قد وجدت المنشأ المناسب لها أولًا في احضان الدول الغربية الكبرى وبالذات فرنسا وبريطانيا. ففي اثناء انهماكها في. بناء إمبراطورياتهما الاستعمارية بدأت هذه الدول تسعى للتخلص من الفائض البشري الموجود لديها، وبدات تجلب العديد من *المستوطنين البيض* وتهيئ لهم سبل الاستقرار في المواقع الحيوية من مستعمراتها كي تخفف بذلك من وطأة الضغوط الاجتماعية المفروضة عليها، اضافة الى استخدام هؤلاء المستوطنين كدرع واق لهذه المستعمرات يحميها من أي خطر يتهددها، ناهيك عن استخدامهم أيضا في استغلال ثروات هذه المستعمرات واقتصادياتها لصالح الدول الاستعمارية كما حدث في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا التي أصبحت تشكل أسواقًا استهلاكية جيدة لتصريف بضائعها ومنتجاتها.
ولعله من المناسب ان أشير هنا الى ما أورده صادق العظم في مرجعه *الصهيونية والصراع الطبقي* كلامًا على لسان سيسيل رودس الاستعماري الإنجليزي في وصف هذا الوضع بقوله: *كنت بالأمس في الايست اند East End (حي العمال في لندن) وحضرت اجتماعا من اجتماعات العمال العاطلين واستمعت هناك للخطابات الهائجة التي لم تكن سوى صرخات من اجل لقمة الخبز. وأثناء عودتي للمنزل تأملت في المشهد فأصبحت اكثر اقتناعا من أي وقت مضى بأهمية الإمبريالية والمسالة الاجتماعية وما يتعلق بخبز الناس وغذائهم، فإذا كنتم تريدون تجنب الحرب الأهلية في بلادكم فعليكم ان تصبحوا إمبرياليين …*
أما بالنسبة لفلسطين فقد وجدت هذه الدول الغربية ان أفضل وسيلة ممكنة لتامين السيطرة عليها هي طرح المشاريع الاستيطانية الرامية الى إنشاء كيان يهودي في فلسطين يكون مرتبطًا بأوثق العلاقات مع الدولة الكبرى صاحبة المشروع، مما يهيىء لهذه الدولة موطىء قدم داخل الدولة العثمانية تمهيدا للحصول على الجزء الذي تطمح اليه من ممتلكات هذه الدولة حين تحين الفرصة المناسبة لاقتسام هذه الممتلكات.
ومن اجل تحقيق هذا الهدف سعت الأوساط الإمبريالية في أوروبا الغربية الى اثارة الاهتمام اليهودي بهذه المشاريع الاستيطانية، غير ان الاستجابات اليهودية الأولية لتبني هذه المشاريع ودعمها لم تتخذ طابعا جماهيريا واسع النطاق، وإنما اقتصرت على البورجوازية اليهودية ذات المصالح الحيوية المتداخلة مع مصالح الفئات الحاكمة في الدول الغربية الكبرى. ففي فرنسا – على سبيل المثال – أخذت البورجوازية اليهودية تقوم بإنشاء وتمويل المستعمرات الزراعية في فلسطين بهدف دعم المصالح الاستعمارية لإمبراطورية نابليون الثالث وأطماعها التوسعية في منطقة الليفانت عن طريق خلق أقلية يهودية قوية تتحالف مع الأقلية المارونية الموالية لفرنسا لتامين مراكز نفوذ قوية للمصالح الفرنسية في المنطقة. وكانت المنطقة تشهد آنذاك صراعًا استعماريًا حادًا بين فرنسا وبريطانيا وتنافسا شديدا بين هاتين الدولتين.
وقد نجحت فرنسا في الحصول على امتيازات كثيرة في مصر كان أهمها امتياز شق قناة السويس، اضافة الى تقوية نفوذها في جبل لبنان عن طريق صلتها الوثيقة بالأقلية المارونية. وبطبيعة الحال فان إنشاء كيان يهودي موال لفرنسا في فلسطين كان من الممكن ان يحقق مكاسب كبيرة للنفوذ الفرنسي في المنطقة.
كما ان بريطانيا لم تتردد هي الأخرى في السعي جاهدة لمد سيطرتها على منطقة الشرق، واستعانت في مسعاها بالبورجوازية اليهودية التي لم تدخر وسعا في دعم مصالح بريطانيا الاستعمارية. وخير مثال على ذلك تمويل الـ روتشيلد للصفقة التي عقدها رئيس الوزراء البريطاني دزراىيلي Disraeli لشراء اسهم قناة السويس من الخديوي إسماعيل، بالإضافة الى قيامهم بتمويل العديد من المشاريع الاستيطانية اليهودية في فلسطين بغية ايجاداقلية يهودية قوية يمكن لبريطانيا الاعتماد عليها في تثبيت دعائم مصالحها الاستعمارية في المنطقة.
وبالإضافة الى سعي البورجوازية اليهودية وراء المكاسب المادية، فانها وجدت في إنشاء وطن يهودي في فلسطين – كما أشرنا سابقا-وسيلة للتخلص من عبء فقراء اليهود الذين بداوا يفدون بأعداد كبيرة متزايدة من روسيا وبعض اجزاء أوروبا الشرقية الى دول أوروبا الغربية.
وقد ادركت البورجوازية اليهودية انه من الصعب على هؤلاء المهاجرين الاندماج السريع في المجتمعات الغربية نظرا للحواجز اللغوية والثقافية، مما ادى الى خشيتها من ان تتولد لدى الشعوب الأوروبية موجة من الكراهية العنصرية ضد اليهود بشكل عام.
ولذا فقد لجات الى إقامة موسسات وجمعيات تهدف الى تنظيم عملية تهجير فقراء اليهودوتوطينهم خارج القارة الأوروبية في فلسطين أو غيرها خشية ان يؤثر بقاوهم في أوروبا الغربية على الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها اليهود الغربيون فيها.
ومما زاد من تخوف البورجوازية اليهودية ما كان يشاع في ذلك الوقت عن اشتراك أعداد كبيرة من عامة اليهود في الحركات الثورية والأحزاب اليسارية المناهضة للأنظمة الرأسمالية الغربية، وبدت هذه الظاهرة وكأنها تشكك في وطنية واخلاص اليهود للبلاد التي كانوا يعيشون فيها.
وكان هذا في حد ذاته على ما يبدو عاملا هاما في دفع البورجوازية اليهودية للبحث عن *وطن* يهودي خارج القارة الأوروبية تتجه اليه هذه الهجرات.
وفي أعقاب ثورات ١٨٤٨ في أوروبا أخذت البورجوازية اليهودية تستعمل المنطق القومي العنصري في دعوتها للاستيطان اليهودي في فلسطين مستعينة بنفس المبررات التي استخدمتها الحركات القومية الأوروبية في تبرير نضالها من اجل حريتها ووحدتها.
بل وأخذت تكيل المديح لليهود كعنصر بشري استطاع المحافظة على *نقاوته* و*تفوقه* على العناصر البشرية الأخرى رغم جميع التحديات التي واجهها عبر العصور المتتالية. ولعل الهدف الذي كانت تسعى اليه البورجوازية اليهودية من وراء استخدامها هذا المنطق هو تشجيع النزعة القومية العنصرية بين عامة اليهود وتشجيعهم للهجرة الى فلسطين.
وكان من أوائل اقطاب البورجوازية اليهودية الذين ساهموا مساهمة فعالة في ارساء دعائم الاستيطان اليهودي في فلسطين موسى مونتفيوري Moses Montefiori (١٧٨٤-١٨٨٥) (كان زعيم الأقلية اليهودية في بريطانيا وأصبح عمدة لندن، وكان اول يهودي يحصل على لقب Sir، وكان صديقا مقربا للملكة فيكتوريا، انظر: Diaries of Sir and Lady Montefiori , L. Loweve(ed) ).
قام مونتفيوري بدعم من الحكومة البريطانية برحلات متعددة الى فلسطين لوضع مشروع واسع لتوطين اليهود فيها. ويبدو انه كان يهمه أيضا كسائر أفراد البورجوازية اليهودية في الغرب تحويل مسار هجرات عامة اليهود القادمة من أوروبا الشرقية صوب بقعة خارج القارة الأوروبية بدلًا من ان تتجه الى أوروبا وبريطانيا بالذات وتهدد وضع اليهود الطبقي والحضاري في البلاد التي يعيشون فيها.
وقد حدث نفس الشيء في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد بدأت تفد الى امريكا في تلك الفترة هجرات يهودية كبيرة قادمة من روسيا واروبا الشرقية مما حدا باليهود الغربيين في امريكا ممن حققوا مكانة اقتصادية واجتماعية متقدمة في العالم الجديد ان يضغطوا على حكومتهم لتضييق أبواب الهجرة لأمثال هؤلاء اليهود والعمل على دفعهم للهجرة صوب فلسطين خشية ان تسبب هذه الهجرات احياء نزعة اللاسامية ضد اليهود في العالم الجديد.
وقد قام مونتفيوري عام ١٨٣٩ بمقابلة محمد علي (وكانت فلسطين لا تزال تابعة له آنذاك حتى نهاية ذلك العام، اذ عادت بعدها للحكم العثماني اثر الهزيمة التي تعرضت لها جيوش محمد علي على يد بريطانيا وحلفاىهاالغربيين ) وقد حصل منه في ذلك الوقت على وعد بمنحه، امتياز استئجار اجزاء من ارض فلسطين (حوالي ٢٠٠قرية في منطقة الجليل) لمدة خمسين عاما معفاة من الضرائب والسماح بإرسال خبراء لتدريب اليهود على أعمال الزراعة والصناعة. وبالمقابل فقد تعهد مونتفيوري لمحمد علي بإقامة شبكة من البنوك البريطانية في مدن مصر وسوريا وفلسطين الرئيسة. ولكن مونتفيوري اكتفى في النهاية بشراء بعض الأراضي وإقامة مزارع نموذجية في المناطق المجاورة ليافا والقدس وصفد (Ben Halpern , The Idea of the Jewish State ,pp. 114-115).
ومما يسترعي الانتباه ان القوانين العثمانية كانت تنص بصراحة ووضوح على منع بيع اليهود الأراضي في القدس وضواحيها. ونظرًا لان القدس لها *مكانتها المقدسة في التراث اليهودي وتستحوذ على مشاعر اليهود الدينية* فقد رأت بريطانيا في ذلك مبررا تستخدمه لتمارس ضغطًا شديدًا على الدولة العثمانية لتعديل القانون العثماني بحيث تصبح القدس مدينة مفتوحة لليهود يحق لهم استملاك الأراضي والعقارات فيها.
وقد تحقق ذلك في عام ١٨٤٩ حينما نجح مونتفيوري في الحصول على فرمان من السلطان عبد المجيد سمح بموجبه لليهود بشراء بعض الأراضي. وتمكن مونتفيوري عام ١٨٥٥ نتيجة تدخل بريطانيا في أعقاب مقابلته للسلطان في الاستانة للمرة الثانية في الحصول على فرمان تسنى له بموجبه شراء اول قطعة ارض في القدس خارج أسوار المدينة القديمة. وبدلًا من ان يقيم عليها مستشفى كما ورد في الفرمان، أقام مونتفيوري عليها اول حي سكني يهودي في فلسطين – وفي القدس بالذات – وعرف فيما بعد باسم *حي مونتفيوري*.
ولم تمض فترة قصيرة من الزمن حتى تم إنشاء العديد من الأحياء اليهودية في المدينة حيث بلغت عام١٨٩٢ ثمانية احياء. وكان الهدف الذي تسعى اليه بريطانيا من وراء ضغوطها المستمرة على الباب العالي للسماح لليهود بالتملك وشراء الأراضي تشجيع اليهود على الهجرة الى فلسطين والاستقرار فيها (ibid ,p. 108).
ونشط اليهود بمساعدة القنصليات الغربية في القدس وخاصة القنصلية البريطانية، في البحث عن أراض جديدة لشرائها واستصلاحها. وقد تمكن متمولان يهوديان عام ١٨٦٠ من الحصول على قطعتين من الأرض: الأولى حصل عليها شلومو يهودا بمساعدة القنصل البريطاني *فين* وكانت تشكل جزءا من أراضي قانونيا، والثانية حصل عليها اليهودي البرتغالي *جوزيف ناسي*، وكانت تشكل جزءا من الأراضي الخصبة الممتدة حول بحيرة طبرية حيث أقام عليها مزرعة توت كبيرة.
ومنذ بداية الستينات في القرن التاسع عشر أخذ اليهود ينشىون الجمعيات لتشجيع الاستيطان في فلسطين. ففي عام ١٨٦٠ تأسست جمعية الاليانس العالمية (الاتحاد اليهودي العالمي) Alliance Israelite Universelle بفرنسا بواسطة مجموعة من اليهود الفرنسيين كان على رأسهم ادولف كريمييه Adolph.Cremieux وهو اول نائب يهودي في البرلمان الفرنسي عام ١٨٣٤ قبل ان يصح وزيرا فيما بعد. وقد لعب فرع ال روتشيلد في فرنسا دورًا بارزًا في توجيه سياسات الاتحاد نحو خدمة المصالح الامبريالية الفرنسية في منطقة الشرق العربي أيام حكم الإمبراطور نابليون الثالث.
وكان الهدف من إنشاء الاليانس العمل على تقديم المساعدة لليهود في كل مكان، والدفاع عن *الحريات المدنية والدينية لليهود وتنمية المجتمعات اليهودية المختلفة عن طريق التعليم والتدريب وإغاثة اليهود في الأزمات* (عبد الوهاب المسيري، موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، ص ٨٥٨ ).
وما لبث نشاطها ان تقلص فيما بعد لينحصر في تقديم المساعدة لليهود المقيمين في فلسطين والعمل على زيادة عددهم بكل وسيلة ممكنة.
وفي عام ١٨٦٨تمكن كريمييه من الحصول على فرمان من السلطان العثماني تم بمقتضاه السماح للآليانس باستئجار ٢٦٠٠ دونم من أراضي قرية يازور القريبة من يافا وذلك لمدة ٩٩ عامًا. وفي عام ١٨٧٠اقامت الاليانس عليها اول مدرسة زراعية في فلسطين اطلق عليها اسم *مدرسة مكفيه اسرائيل الزراعية* Mikve Israel Agricultural School بتمويل من البارون إدموند دي روتشيلد والبارون موريس دي هيرش، واشرف على تاسيسهاكارل نيطر Karl Netter احد مؤسسي الاتحاد، وكان لهذه المؤسسة مساهمة كبرى في دعم مشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين وخارجها (ESCO Foundation, p. 9 ) . كما قامت هذه المدرسة بالتعاون مع صندوق استكشاف فلسطين بدراسات مكثفة للتربة وأنواع المزروعات التي تصلح لها.
وساهمت المدرسة أيضا في تدريب المهاجرين اليهود على أعمال الزراعة التي أصبحت منتشرة بين غالبية سكان المستوطنات اليهودية.
وقد نجحت الاليانس في إقامة عدة فروع لها في دول أوروبا الغربية .وفي عام ١٨٧١ انفصل الفرع الإنجليزي مكوناجمعيته الخاصة باسم *الجمعية الإنجليزية اليهودية* Anglo Jewish Association.
وفي عام ١٨٧٨ قامت مجموعة من يهود القدس وبتمويل من يهود بريطانيا بشراء ٣٣٧٥ دونما من أراضي قرية ملبس التي كان يمتلكها احد تجار يافا من ال قصار، وتم تسجيل الأرض باسم يوىيل سولومون النمساوي الجنسية الذي كان يتمتع بحق الحماية من القنصلية النمساوية.
وفي العام التالي وضع اليهود أيديهم بالطريقة نفسها على قطعة ارض مجاورة بلغت مساحتها عشرة آلاف دونم. وقد أقام اليهود على هاتين القطعتين من الأرض مستوطنة بتيح تكفا ( باب الأمل ) Petah Tikva التي اطلق عليها لقب أم المستعمرات.
ولم يقتصر دور البورجوازية اليهودية على إنشاء المستعمرات والجمعيات وتمويل المستعمرات الزراعية في فلسطين، وإنما لجات أيضا الى سلاح فعال وهو تبني واستخدام كوادر فكرية يهودية لا سيما من بين رجال الدين اليهود أمثال القلعي وكاليشر وموسى هس، وذلك ليعملوا في خدمتها ويعبروا عن مصالحها من خلال استثمار قوة الكلمة بأبعادها الدينية والقومية والاقتصادية لدى أوساط عامة اليهود من الشرائح الفقيرة المعدمة والتي سرعان ما تجذبها إغراءات الكلمات المعسولة، فيستجيبون لها ويتركون اوطانهم ليهاجروا الى فلسطين، وكانت هذه الأوساط بالتالي اول ضحية من ضحايا الوهم الصهيوني الاستعماري.