أحلام الجماجم* يوسف طراد
النشرة الدولية –
تأبّط الأستاذ جورج عقيص الحقّ صحوةً لتبديد قلق الوطن، فنشر خواطر وجدانية، اجتماعية وسياسية في كتاب (أخذني بعض الوقت لأفهم) الصادر عن دار سائر المشرق للنشر بطبعته الأولى عام 2017.
أربعة فصولٍ، حوتها مئةٌ وتسعٌ وثمانون صفحة، جعلتنا نتيّقن الجدران الضيقة التي ازدادت التصاقًا بهمومنا، كما جعلت كل أحدٍ منّا يجر جثته متثاقلًا يحاول رفع رأسه والنظر إلى خلاص الوطن. صدر صوتٌ بعيدٌ من الكتاب، شقّ الصمت الذي اعتدناه واعتادنا، صوتٌ حوى جماجمنا المعلّقة أمانة في عنق الكاتب، أحدثت قرقعةً غير مسموعة من الساسة غير الآبهين لصمت الألم.
جورج عقيص مناضلٌ في مجال الصحافة والقضاء، ارتقى إلى مقاعد المجلس التشريعي، قاتل وهو متأهب على ناصية الحرف وقوس المحكمة. كاتبُ وجدانيٌ أخذنا سريعًا إلى داخل خواطره، وضعنا وسط التساؤلات وتناقضاتها. لم يكن عبدًا لإنشائية الكلام بهدف تسويد الصفحات، هنالك صفحات في الكتاب كُتب عليها كلمات معدودة تضاهي مجلدات فلسفية، وهذا يدل على وعي الكاتب للقضايا المطروحة والمشكلات التي كانت من صلب حياته المهنية في جميع مجالاتها. كتب نصوصًا قدّمت لنا صورًا متداخلةً متناقضةً في الزمان والمكان، بواقعٍ غائصٍ في متاهة الفوضى.
دون إهداءٍ (لم أفهم يومًا جدوى تصدير الكتاب بإهداء) ندخل الكتاب تحت عتبة المقدّمة التي تصدّرتها حكمةٌ، علّ جميع الكتّاب يتحلّون بها (عندما نكتب لا يمكن أن نكذب). ننتقل إلى مقطعٍ أول يعلّل عنوان الكتاب (أخذني بعض الوقت لأفهم) من ثم مقطع بعنوان (هذا الكتاب) الذي هو حصن الروح، المتربّعة في حضن العلاقة بين الفكر والكلمة.
(المرشدون والمواكبون) عنوان فصلٍ أول ضم أربعة مقاطع، إثنان بعنوان (الوالدان) ومقطعًا بعنوان (موسى كلّاس ومحمد الشاطري الهاشمي) وآخر بعنوان (السوريون وراسل قاسم). خلال هذا الفصل يصبح القارىء لا قارئ أثرٍ فحسب إنما متتبعًا لصفات شخصيات محببة أثّرت في حياة الكاتب وكانت قدوةً وعبرة.
الفصل الثاني (مقتطفات وجدانية) فصلٌ ضمّ كتاباتٍ لم تهادن، بل تهادت بشهدها الجامح على بساط السرد الزاهر، نشوةً هادرةً من حبرٍ نابضٍ في عروق الوجدان. ظهر السلام الساكن في روح كاتبه والمدلول عليه من فحوى السؤال (من يخلّد التاريخ؟) فيأتي الجواب (ولكنه على الدوام يخلّد المسالم… ولو صُرِع!). كتاباتٌ تصف مأساة الطبيعة في نحيب البنفسج وصمت البلابل (حين تكون البلابل صامتة تسمع نحيب البنفسج). كتابات تفضح (هذيان حكومي) عند قولها: (في يوم المرأة، الحكومة اللبنانية تهدي المرأة قانون مكافحة التحرّش بدلًا من الكوتا).
الفصل الثالث (نظرتي إلى) لا يأخذ القارىء وقتًا ليفهم نظرة الكاتب إلى (المرأة، زحلة، أبو ظبي، الموت، الظلم، الليلة الأولى في القبر، رمال، الخبز والحرية، أقلام، خبث الوصول، والكلمة وثمنها) وغيرها من عناوين هذا المقطع، لأن جورج عقيص وقف على جميع التحولات التي شهدتها جغرافية الوطن وإنسانه، مدركًا أن للثقافة دورًا في محاربة الذين يقفون اليوم أمام الكاميرات ويردّدون الشعارات التي أفرغوها من مضامينها بممارساتهم. لأنه تميّز بالسؤال والجواب المطابق للواقع الأليم (ثم سألته: وما هو الأقل نفعًا؟) فقال: (الثرثرة وثورة الشرفاء في بلاد فاسدة).
(محطّات في حرّية الأوطان) فصلٌ رابعٌ وأخير، حيث يتبين للقارىء النقد السياسي البنّاء في إطارٍ أدبي جميلٍ راقِ من خلال عرض حقائقٍ لا لبس فيها (14 آذار لن تتكرّر، ومن يحملون إسمه اليوم لا يستحقّونه. هو وديعة لديهم بانتظار جيل من اللبنانيين أكثر جرأة في أحلامه، نفسه طويل، لا يخشى تعرجات الدروب ولا عوراتها)… (لا، لا أخاف على لبنان… ستأتيه أيام عزّ ورقيّ وتقدّم. فقط عندما تتولّى أموره طبقة سياسية تبني وطنًا ونظامًا ومؤسّسات).
أيها الكاتب المبّدع في معترك حياتك التي نتمنّى أن تطول مترافقة من الصحّة، اكتَشَفْت العورات الكبيرة في الجسم القضائي، حيث غُيّبت الكفاءة لمصلحة المحسوبية، وكانت المسايرة عنوانًا لعلاقة القضاء بباقي السلطات، وغيرها من الشوائب الوخيمة المتعلقة بعباءة هذا السلك، مما جعلك تستقيل من عمل المحاكم (كلّ هذه الصور الممجوجة لعلاقة القضاء بمحيطهم أملت عليَّ اتخاذ القرار الصعب بترك القضاء) وأخذك بعض الوقت لتفهم بالرغم من وجودك خارج نادي القضاة بأنك (استمريت قاضيًا لبنانيًا من زمن سقوط القضاء اللبناني المدوّي) متمنيًا (جيلًا لا يسير وراء زعيم بلا نقاش ومحاسبة، لا يُنصّب أشخاصًا آلهة أو أولياء… بل يمشي وراء برامج وأهداف).
بناءً لما ورد أعلاه وبالرغم من وصولك لمقاعد البرلمان وأنت الذي كتب في مستهل مقطع أنا والسياسة (أنا لست سياسيًا ولن أكون. هذا هو اليقين الذي توصًلت إليه) سنعتبرك غير سياسيٍ، بل مشرّعًا للوطن، باسطًا جناحه في فضاء البرلمان، وقدوةً لأترابك من المشرعين، منعتقًا من عبودية الكتل النيابية والتعقيدات السياسية التي تطيح بمجتمعنا. آملين أن تشرّع كل الحقائق التي كتبتها، خاصةً في الجسم القضائي ودمج الوزارات، كي تهدهد تشريعاتك أحلامنا عندما تبدد شياطين المال، وتشدو بعذوبة ابتهالات الفقراء في أغنية سنبلة القمح للبطون الجائعة. عندها لن نملّ بوجود أمثالك أملًا لأحفادنا كما ملّيْت من الانتظار أن يعود وطنك وطن.
لماذا يا جورج عقيص وضعتنا في أرجوجة الأحلام فوق هذا الجو المشحون بالتعاسة، فأصبحنا منتظرين لتلامس كلماتك فؤاد المجتمع الذي هرم قبل الأوان، وتتجسّد الأحلام الجميلة، ونقرأ الفاتحة أو نتلوا الأبانا والسلام على أرواح شهداء من جميع مكونات الوطن. شهداءٌ سطّروا بدمائهم أسطورة وطنٍ لنقرأها عبرةً، كي لا نسير مطأطئي الروؤس مهزومين بوطنيتنا، متنكرين لدمائهم الذكية. فتزول الحيرة، التي هي وليدة التناقض، في حياة الجيل المخضرم بين ثقافتين وحضارتين، كما ورد في مستهل كتابك.
لماذا يا جورج عقيص، حاولت إزالة الصّمم، من آذان السياسيين التي وددت أن تعرف عنها، كي تستمع إلى سمفونية الوطن الأفلاطوني، لكن (على من تقرأ مزاميرك يا داوود)؟