4 حروب بين روسيا وتركيا* طوني فرنسيس
النشرة الدولية –
تتواجه روسيا وتركيا في ثلاث حروب معلنة وواحدة خفية؛ المواجهات المعلنة تدور في ليبيا وسوريا والقوقاز، والخفية أطلقها أخيراً الرئيس التركي رجب أردوغان بقراره تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد.
ليس الصراع بين الجانبين جديداً، فعشرات الحروب وقعت بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وفي العهد السوفياتي كانت موسكو تنظر إلى تركيا بوصفها قاعدة صواريخ أطلسية موجهة ضدها. ورغم التقارب الاقتصادي والسياسي الذي تحقق بين البلدين في ظل رئاسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإن الاختلافات العميقة عادت إلى الظهور بين إمبراطورية روسية تحاول استعادة موقعها في العالم ورئيس تركي ينضوي تحت لواء الإخوان المسلمين ويحشّد باسمهم وباسم القومية التركية بهدف إحياء عثمانيةٍ وئدت بعد الحرب العالمية الأولى.
كان على تلك الحرب أن تنتهي إلى غير ما انتهت إليه بالنسبة إلى روسيا. ولا تُخفي نُخبٌ روسية اليوم ندمها على انسحاب بلادها من الاتفاق الثلاثي مع بريطانيا وفرنسا بشأن اقتسام ممتلكات السلطنة العثمانية. وتعتبر تلك النخب أن الثورة البلشفية التي تسببت بذلك الانسحاب “سمَّمت” المجتمع وجعلت روسيا تخسر جيوبوليتيكياً ما لا يقدر بثمن، وما كان سيجعل صورة الشرق الأوسط على غير ما هي عليه اليوم.
لقد تفاوض وزير خارجية القيصر سيرغي سازونوف مع ممثل بريطانيا مارك سايكس وممثل فرنسا جورج بيكو، فيما كان الجيش الروسي يحتل همدان وقم في إيران، ويتحرك باتجاه بغداد بقيادة الجنرال برادوف. وفي شتاء عام 1916 وصل الروس إلى أرضروم في تركيا، وفي أبريل (نيسان) أُنجزت الاتفاقية الثلاثية التي ستسمح لروسيا بضم القسطنطينية ومضيقي البوسفور والدردنيل وأرمينيا الغربية وكردستان وصولاً إلى حوض دجلة مقابل سيطرة الإنجليز على العراق وفلسطين وسيطرة فرنسا على سوريا ولبنان وكيليكيا.
انتهى كل ذلك مع ثورة لينين، وخرجت روسيا مهزومة لتدخل في حرب أهلية، وانكفأ الأمل الروسي العميق باستعادة القسطنطينية “مهد عقيدتنا” كما كان يقول سيرغي سازونوف.
ومن سيرغي الأول إلى سيرغي الثاني “لافروف”، يُعاد طرح الملفات نفسها بحسب ظروف العالم الجديدة، فبعد مئة عام على خسارة موسكو جائزتها الكبرى، ورغم اعتبار بوتين تركيا شريكه الاقتصادي الأول في المنطقة، يرى القادة الروس أنهم يتعرضون لهجوم تركي على أرضهم وفي مناطق نفوذهم التاريخية. في سوريا يمنع الأتراك روسيا من حسم معركة إدلب ويحمون مجموعات مصنفة إرهابية حتى بالنسبة إلى روسيا، ولم يقدم اتفاق مارس (آذار) الماضي بين بوتين وأردوغان بشأن إدلب أكثر من هدنة قد تنفجر في لحظة.
وفي ليبيا، وهي في اعتبار الروس منطقة نفوذ أقله منذ انقلاب معمر القذافي، يخوض الأتراك معركة مباشرة ضد حليف روسيا القوي الجنرال خليفة حفتر، ويستعملون ضد روسيا الحجة نفسها التي تشهرها موسكو في سوريا؛ فموسكو دخلت سوريا بطلب من شرعية بشار الأسد، وتركيا تقاتل في ليبيا بطلب من شرعية حكومة السراج!.
على أن الحرب الثالثة التي ستقصم ظهر البعير “الروسي – التركي” هي مسارعة أنقرة لتشجيع أذربيجان في محاربة أرمينيا؛ فمنذ عودة المواجهات بين البلدين مطلع الشهر الحالي بسبب نزاع ناغورنو كاراباخ منذ عام 1992 وضعت تركيا صناعتها الحربية في تصرف أذربيجان. وحسب صحف روسية أرسلت إلى باكو مئات من السوريين الذين تقودهم أنقرة، تماماً كما فعلت في ليبيا.
ومن حق روسيا أن تعتبر التوتر في القوقاز تحدياً وحرباً ضدها، فرئيس أذربيجان الهام علييف صديق لها وخريج معاهدها، وهدف الأتراك إحراجه وتشجيع ما يسمونه العصبية التركية التي تشمل أذربيجان ومناطق تركستان الشرقية، وفي الوقت نفسه فإن أرمينيا حليفٌ لروسيا وعدو تاريخي لدود لأنقرة، ومن هنا الحرج الروسي في مسألة ستقودها الولايات مواجهة ثالثة مع أردوغان.
كان ينقص اللوحة لتكتمل قضية آيا صوفيا، لقد ضبط بوتين نفسه تماماً واكتفى بإبلاغ أردوغان استياء الشعب الروسي، لكن الرئيس التركي لم يلتفت إلى الاتصال الرئاسي الروسي، ومضى في تنفيذ قراره ليأتي رد موسكو في خطوة موجعة لتركيا وذات مغزى عميق.
ارتأى بوتين محادثة رئيس الوزراء اليوناني، الخصم الدائم لتركيا، واتفقا على خطورة التلاعب بوضعية آيا صوفيا، لكن الإشارة المهمة كانت تحديد العام المقبل عاماً لليونان في روسيا بمناسبة المئوية الثانية لحرب استقلال اليونان في مواجهة السلطنة العثمانية!.
إلى ماذا ستنتهي سلسلة المعارك الروسية التركية؟ الأكيد أن تطورات مقبلة ستحمل أجوبة في ليبيا وسوريا والقوقاز وربما في بحر إيجة.