أبو عواد يسجل انطباعاته النقدية العابرة… يطوف في تفاصيلها دون ضوضاء ترصد تجارب خمسين كاتبًا أردنيًا
النشرة الدولية –
العزلة المكانية كانت تحرض على الكتابة لملء الفراغ الذي يأنفه المبدعون.. فمن عزلة الشتاء خرجت الأعمال الضخمة التي تنتمي للأدب الروسي الواقعي، وقد كتبها أصحابها وهم يقضون أجمل الأوقات أمام مواقد الحطب فيتمازج في وجدانهم صوت تكسر القطع الخشبية وانهمار الأمطار والرياح المتناوحة تعصف بها.. وهي عزلة شبيهة بتلك التي حبست الروائية الأمريكية ماريغريت ميتشل لتعتني بزوجها الجريح بعد أن أدمته الحرب الأهلية الأمريكية، ما فسح لها المجال لكتابة روايتها اليتيمة العظيمة «ذهب مع الريح» والتي تعتبر درة الأدب الأمريكي عبر العصور.. ولو ذهبنا إلى القارة العجوز، سنجد بأن العزلة الاجتماعية أو المرضية دفعت بالشقيقتين إيميل برونتي لتكتب روايتها الوحيدة «جين إير» بينما انشغلت شقيقتها شارلوت برونتي، وفي نفس الظروف لتكتب رائعتها الوحيدة رواية «مرتفعات وذرنج».. وهي ذات العزلة التي أوقدت قناديل الذاكرة المعرفية لدى المبدع محمود أبو عواد.. حيث دفعته عزلة وباء «الكورونا» لينقب بين الكتب المركونة على أرفف مكتبته في صفوف متوازية، باحثاً عمّا ألفه مبدعون أردنيون فيأخذها بعين الاهتمام، فيخوض في تفاصيلها كقارئ نهم يمتلك عين ناقد حويط، وليس كنطاسي يمتلك أدوات التشريح التي ستهيئء له القدرة على سبر أغوار النص وتفكيكه ومن ثم تجميعه لرصد التوترات والرؤى والبحث في الدلالات بموضوعية وأحياناً بتجني.. لم يكن هذا هو هدف أبو عواد في كتابه «النوّاسة» الذي صدر حديثاً عن دار دجله « ناشرون وموزعون» في عمان، بل قام بتقديم قراءات نقدية لخمسين عملاً أدبياً اردنيا من قصة ورواية وشعر، حيث سلط عليها الضوء من أجل اطلاع القارئ على حجم النقلة النوعية في الأدب الأردني. باعترافه شخصياً حين قال في تصديره للكتاب (ص 13):
«هو عمل حاولت مجتهداً أن أختار زاوية للرؤية النقدية للنص المختار، ونشدت أن أكون منصفاً فيما أدعي»
لقد سجل أبو عواد انطباعاته النقدية العابرة فيطوف بنوّاسته في تفاصيلها دون ضوضاء.. فهو محكوم بضيق الوقت وخاصة أنه من المحال الاهتمام بخمسين عملاً أدبياً والكتابة عنها في غضون الثلاثة أشهر.. ورغم ذلك أكمل أبو عواد مادة الكتاب على هذا النحو..
وينبغي في سياق ذلك الانتباه إلى أن أصعب النقد هو أن تنقد عملاً نقدياً متكاملاً، ما يسترعي تحديد مواصفات الأدوات التي استخدمها الناقد لتقييم مدى التزامه بالشروط الفنية المطلوبة لكل جنس أدبي، ومناقشة القضية المطروحة في سياق الفكرة ويمكن اللجوء إلى استلهام العناصر الفنية للقصة أو الرواية على سبيل المثال، من خلال دراسة الوصف الداخلي والخارجي، أو التنقيب عن الثنائيات وغير ذلك.. ولكن النواسة جاءت بإضاءات سريعة وجميلة لتعرف بالأعمال الأدبية.. فكان يعمد إلى التبئير قليلاً في تناوله لبعض النصوص بينما كان يكتفي بالتعريف بالنص كما فعل مع رواية « أعشقني» للدكتورة سناء الشعلان.
ومن أهم المحاور التي ركز عليها نسبياً أبو عواد في كتابه النواسة: اللغة، التقنيات الفنية، الوصف الداخلي والخارجي، الحكم على المنجز وتوصيفه أيدلوجياً.. وهذا مدخل مناسب إلى اهتمام «نواسة» محمود أبو عواد بجنس الرواية، من خلال تسليطه الضوء الخافت على رواية أممية للكاتب سليمان الأزرعي، فقد ربط بين النبرة الخطابية الماركسية وموقف الروائي الأيدلوجي.. وقد وصف الرواية من خلال عنوانها « أممية» بأنه يوحي بفكر اشتراكي يساري أممي وأن النسيج الاجتماعي يغلب على فئاته الفقر وتداعيات الأسطورة.
وهو ما فعله أيضاً مع رواية «القط الذي علمني الطيران» للروائي هاشم غرايبه، ففي عتبة النص أشار مبائرة إلى انتماء بطل ارواية الحزبي في أنه سجين سياسي بسبب انتمائه للحزب الشيوعي الأردني، ليطرح تساؤل السجين الذي يرفض الامتهان:
«كيف يحشر التحريري الذي ينتمي إلى حزب إسلامي يميني، والشيوعي الذي يقف إلى يسار المعادلة السياسية، في موقع واحد مع اللصوص وقطاع الطرق وحاملي الشفرات! فالجواب كما جاء في النص «ليس عند الراوي».. وهي إشارة إلى السجان ورؤيته الأمنية.. ومن هنا يطرق الناقد باب النص متجاوزاً عتبته ليدخل بالقارئ إلى أعماقه عبر ما يرويه بطل الرواية عن نفسه من خلال مقطعين استشهد بهما الناقد من الرواية.. « حتى التقى السؤال بالعنوان مع آخر ما جاء في النص على لسان بطل الرواية:»وضع القط قدمه في صدر أبو زهرة المشجر بالجروح الملتئمة ودفعه: انطم.. ولك عيب تتجسس عليّ»
ويشير الناقد إلى أن الرواية تمثل تجربة نضالية شخصية لكاتبها، ثم يشيد بأدب المقاومة.
الأسماء كثيرة في مجال الرواية وقد لا يتسع بها المقام في هذا النص النقدي الذي جاء في سياق حفل إشهار هذا الكتاب القيم سواء أجرى عليها تحليلاته أو مر بها من باب التعريف .. وقس على ذلك في مجال القصة القصيرة حيث تناول تجربة الروائي صبحي فحماوي ومحمد مشه وحنان بيروتي ويوسف ضمره وغيرهم.
فإلى جنس أدبي آخر وهو الشعر، وقد لفت انتباهي ما قاله أبو عواد عن تجربة الشاعر عيسى حماد في أنه يكتب شعر التفعيلة بشكل أفضل من تجربته في الشعر العمودي المقفى.. وهذا موقف نقدي عززه بمثال واحد.. وكان بإمكانه أن يحدد الموقف بتحليلات أكثر عمقاً؛ لكن ضوء النواسة الخافت لم يسمح بذلك.. وفي المحصلة فقد عرفنا الناقد بالشاعر في إشارة منه إلى أهميته في المشهد الثقافي الأردني.
وكان أبو عواد حينما ينقب عن غاية القصيدة في النص يقف على الدلالات ويشخصها ويحكم عليها فنياً لا بل ويناقش الفكرة.. ففي قصيدة الرصيف للشاعر محمد لافي يقول أبو عواد:
«موسيقا أبيات القصيدة هذه مالت إلى الهدوء، وأعطت للتقريرية مساحة بين جملها وتفعيلاتها.
فقد لا توافق الشاعر على ما قاله في أمته العربية، فهناك خيط متصل بين الاستبداد والفساد والمصائب وليس هذا حال الأمة العربية.. وكأنه يقول لنا يا فقراء العالم اتحدوا»
وأبو عواد الذي فرضت عليه عزلة الكورونا الطواف في عالم الكتب التي أتيح له امتلاكها، حاملاً نوّاسته لم يعتمد في اختنياراته على تاريخ الشاعر وعراقة اسمه في عالم الأدب بل جعل يتنسم عبير القصيدة المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي لتأخذه إلى كاتب النص، فتستيقظ في أعماقه روح الناقد الموضوعي والمستكشف للخبايا كقارئ يبحث عن المعنى بين السطور وليس كطبيب جراح يشرّح النص ويبحث عن تفاصيله كي يلتقط ما وراء المعنى من درر.. وربما يحرج موقف الشاعر إذا ما التقط هنّة هنا أو هناك. ولكن أبو عواد القارئ الناقد كان يحنو على النص في عجالة انطباعية؛ ويفتش عن المعنى المختبئ بين بتلاته المعطرة بالدلالات، ويترك له متسعاً للحوار مع زهرة النور.. ففي ديوان (نوارس على شاطئ الاغتراب) للشاعرة ريما البرغوثي وهو ديوانها الأول قيد النشر، يشير أبو عواد مباشرة إلى شغف الشاعرة باللغة العربية وفي أنها أميرة البيان وهو حكم انطباعي جاء كعتبة للدخول إلى نص قصيدة (درب من سراب)، وبعد كل مقطع كان يحلل النص فيتحدث عن انسيابيته.. فالشاعرة ركبت البسيط بحراً وطاوعتها موسيقا.. وربط الناقد بين دلالة طائر النورس في القصيدة والاغتراب.. ليصل آخر المطاف إلى حكمه الفني على ريما البرغوثي من خلال تحكمها باللغة البليغة وقدرتها على تركيب الصور الشعرية باقتدارفي النصوص الشعرية التي تضمنها ديوانها الشعري الوحيد، فيقول أبو عواد في نواسته :
«أنها ليست منكفئة على ذاتها فبقيت قادرة على التصوير والتعبير واستخدام الصور البلاغية التي امتازت بها» فينبه أبو عواد القارئ بما قاله في عتبة النص باعثاً في روح الشاعر الأمل.. «ألم أقل لكم أنها أميرة البيان؟» وهو سؤال تحفيزي له قيمته المعنوي ودلالاته الانطباعية.. وهكذا فعل مع كثير من الشعراء الذين تناول نصوصهم وقدم لها شرحاً مبسطاً دون إعمال أدوات النطاسي في التشريح المؤلم أحياناً ورغم ذلك كان يبدي اختلافه من صاحب النص دون مجاملة رغم مروره السريع.