دع مالك في الظلام يسمح لك برؤية الضوء* يمينة حمدي

النشرة الدولية –

أشاع فايروس كورونا عمليات الدفع الإلكتروني، لتصبح جزءاً مهما من طرق الوقاية من العدوى، التي قد تنتقل بين الناس عبر لمس العملات النقدية، ومثل هذا الأمر رفع حماسة الكثيرين في المجتمعات الغربية لاستخدام هواتفهم المحمولة وبطاقات الائتمان لدفع ثمن جميع مشترياتهم، بداية من الأطعمة، وصولا إلى المنتجات البسيطة التي لا تتراوح أسعارها أحيانا مبالغ صغيرة جدا، وتستغرق عمليات الدفع بهذه الطرق بضع ثوان معدودة، دون الحاجة لإضاعة الوقت في البحث عن النقود أو انتظار الباقي.

من الناحية النظرية والعملية، تبدو فوائد الدفع الإلكتروني جلية للعيان، وخصوصا في المجتمعات التي تكاد تختفي فيها طرق الدفع النقدية، فهذه الطريقة ملائمة وسهلة وتغني عن حمل مبالغ كبيرة من المال في الجيب أو إضاعتها وسرقتها.

ولكنني لاحظت في معظم المتاجر في لندن أن أغلب المسنين، مازالوا متمسكين بالدفع نقدا ولا يفضلون الطرق الإلكترونية، ربما ليس لأنهم من الأجيال التي تجاوزتها التكنولوجيا، بل لأنهم تعودوا على متعة مسك المال والتصرف فيه وفق ما يحلو لهم، كما أنهم يسعدون أكثر لأن تلك الطريقة التقليدية في الدفع، تتيح لهم معرفة أين ذهبت أموالهم، وتعطيهم إحساسا أكبر بالاطمئنان.

لقد فكرت مليا في هذا الأمر، وأنا أستحضر أبناء إخوتي وهم يطلبون من آبائهم بعض القطع النقدية ليضعوها في حصالاتهم.

وفكرت على وجه التحديد، في ذلك اليوم الذي كسر فيه ابن أختي حصالته ليشتري لأمه هدية في عيد الأمهات، وهو يضحك وبريق المال يلمع في عينيه.

ما رأيته وقتها في عيني ذلك الصبي الصغير، الذي لم يتجاوز السنوات الست من عمره، جعلني أدرك جوهر المثل الشائع “دع مالك في الظلام، يسمح لك برؤية الضوء”.

التعامل النقدي له تأثير قوي على حياتنا، لأنه ينطوي على إشاراتٍ حسية ونفسية كبيرة، وهو أمرٌ شديد الأهمية بحسب اعتقادي، لأنه يمنحنا مساحة لتكوين أفكارنا ومشاعرنا الخاصة عن كيفية التصرف في المال، وهذا الشيء لا يمكن أن يكون أكثر وضوحا من مراقبة طفل صغير وهو يخطو أولى خطواته التجريبية نحو الحياة، من دون أن يمسك النقود بيديه، ويطور فهمه ووعيه الخاص عن أهمية الادخار والإفادة والاستفادة من المال.

عندما أتذكر فترة الطفولة، أستعيد ذكريات مازالت تطفو في ذهني، حين كنت أرمق والدي في انتظار قطعة نقدية لأضعها في حصالتي، لكن ماذا سيمنح الآباء لأطفالهم مستقبلا، بطاقة الائتمان أو الهاتف الجوال ليضعوها في حصالاتهم!

اختفاء المال من الحياة اليومية مستقبلا، يثير تساؤلات مهمة عديدة من بينها: كيف سيكون شعور الآباء إذا لم يمسك أبناؤهم بقطعة نقدية نهائيا، وكيف ستكون حياة الأبناء الذين لم يتذوقوا متعة مسك المال؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى