من أجمل ما قرأت… بتصرف د. سمير محمد ايوب: ناجي العلي للأبد* نوال فاعوري
النشرة الدولية –
أصعب ما على الطغاة أن يواجهوه، حُرُّ قرر أن يُغلق جيبه وأن يطلق لسانه. من فعلوا مثل هذا، هزّوا أركان الظلم الذي ولغ فيه أشرار في دول عدة. وكل الذين احتموا في صليل أقلامهم، حين واجهوا الموت نجوا، وبقيت أرواحهم حية، وإن دفعت أجسادهم الضريبة الطبيعية التي تُفرض على الأحرار. أما المرفهون من أصحاب النضال، بلا أسْرٍ أو عذاب أو موت، فهُم محضُ مهرجين أو غبار أو أشباه أو ظلال لا أكثر.
الثنائي ناجي – حنظلة، كانا صداعاً لطغاة العرب، كانا أشبه بسمٍّ بطيء يتناولونه من محبرتهما التي لغّماها بالحرية. وكان يظن الطغاة أن نهاية صداعهم وخوفهم، يكمن في قتلهما أو ابتلاعهما أو احتوائهما. وهما عصِيّان على الاحتواء والابتلاع . فذات ليل حسم الطغاة امرهم.
قبل ثلث قرن، نظر ناجي العلي إلى ساعته، مشى قليلاً في لندن مدينة الضباب، التي عاش فيها المحقق الإنكليزي الأشهر شرلوك هولمز، الذي يتقن فن تفريق دمُ الضحية بين المستفيدين. أعاد ناجي ترتيب ياقة الجاكيت الصيفي، تأكد من خلوّ الشارع، ثم سار بهدوء.
وقف بعدها على ناصية أحد شوارع لندن، هادئاً كما كان دوماً، ثائراً كما كانت الحرية تقتضي، لا يحابي على حساب فلسطين أحدا ، بندقية ريشته تفتح النار على كل مشبوه. فالحرية بالنسبة له كفلسطين كل لا يتجزأ، والطغاة مهما تعددت اسماؤهم اخوة، لا يتمايزون إلا بالكم. وكان موقنا أن القلم الحر عدو للجميع، وأن ملة واحدة. رسم آخر لوحاته ، في لندن مسرح الجريمة التي سهلت طعنه في الخاصره.
كانت حثالة من طغاة العرب وقواديهم وأخوة يوسف، منتشون في مكاتبهم، وهي يسمعون خبر تغييب ريشة ناجي، تناولوا أقداحا من عصير التفاح والعنب والشعير وبول البعير، وتبادل المستفيدون من قتله ، أنخابا ممزوجة بدم ناجي العلي ودموع حنظلة. فرحوا بانتصارهم الجزئي عليه وعلى حنظلة، لكنهم خسروا حربهم معه.
ناجي وهو يخطو بهدوءٍ سيِّداً نحو حياة اخرى ، إعتقد حمقى الطغاة أن القتل هو آخر مراحل الحياة، وأن الصمت من بعد ناجي سيغدو سيّد المكان، ولكن للشهداء منطق آخر يقول: أن الموت بداية أخرى ، تُنْضِج الحرية. فضجت رحاب الأماكن بالتكبير إيذانا ببدءِ حياة من جديد، تُرسي لبنات في نهايات متنوعة للطغاة وإن تباعدت.
في ذات الوقت الذي صمت فيه ناجي، تقول الصديقة نوال الفاعوري: أردتُ الصمت. فماذا سيجني العالم من وراء خرابيشي ؟ لا شيء على الأغلب، ناجي لم يعد يقرأ، وحنظلة لم يعد يفعل، انهما يتابعان من بعيد، يتمنيان الفوز في الصراع الوجودي منذ سنوات، وهما يعلمان علم اليقين ، أن أولى خطوات النصر، تفاصيلٌ صغيرة كثيرة وأن التاريخ في اللحظات الفارقة لن يكرر نفسه .
يا شيخنا العزيز ، لا جديدٌ يُذكر، ولا قديمٌ يُعاد، والخربشات التي سبقت هذا التاريخ مُتاحة لمن يريد، وبعد سنين سأعود لقراءة ما خطه قلمي، فلن يكون عليّ الكتابة مرة أخرى، يكفي أن أعيد نسخ ولصق شيئا من الخربشات من جديد ، فالظاهر يا صديقي لن يتغير شيء.
رسم ناجي العلي أكثر من 40 ألف لوجة ، كافية لأن يُشعل جبابرة فلسطين بها أكثر من 40 ألف ثورة . لكنْ بعد ثلث قرنٍ من جريمة لندن ، فإن حثالة من أرامل وأيتام ولقطاء اوسلو قد جمعوا كل رسومات ناجي ، ثم أشعلوا بها وبحنظلة ناراً يتدفئون بها ، منتظرين أن يجود أعداؤهم عليهم ببعض فتات، وقبل أن ينفضّ الطغاة الجدد من أمام الهشيم ، سأل أحدهم : ما هي أخبار التنسيق الأمني مع الصهاينة .
في لحظةٍ ما ، يبدو الصمت منطقياً حين تكون في مقبرة. ما الفائدة من الكلام مع كل هذه الطوابير من جثث المتواطئين والمتخاذلين والصامتين والعاجزين ؟ أصحيح لا شيء ؟! لا التصديق أن زمن النضال الوجودي قد رفع ، وأن الأمر قد انتهى ، ولا أريد سماع نصيحة جدتي : أن الضرب في الميت حرام ؟!
كي لا أبقى جثة أو مشردة ، عليّ أن أهتم بالتفاصيل الحقيقية الآن، لون القبر، شكله، مكانه/مكانته، والأهم : عليّ أن أنقل كلام الأموات للأموات ، بعد أنْ كنتُ أنقل كلام الأحياء للأموات .
هذا كل ما في الأمر حتى الآن يا صديقي !!!