من ينقذ لبنان من الانهيار التام؟* حمزة عليان
النشرة الدولية –
كيف السبيل إلى إنقاذ لبنان في أزمته الطاحنة والكارثية التي وصل إليها؟
مثلما يتساءل الكثيرون والغيورون على مصير بلدهم، وأنا واحد منهم، لماذا تحول لبنان إلى مسرح تتأجج فوقه نيران حروب الآخرين؟
الجواب ببساطة: كلما توغل فريق من اللبنانيين تورطا في صراعات اللاعبين الكبار بات من الصعب أو المستحيل حمايته من نتائج هذه الصراعات، فلبنان كله يدفع الثمن اليوم، وهذا ليس بجديد عليه، ومن يقرأ التاريخ جيداً فسيعثر على ضالته، وأنا لا أخترع ولا أتقوّل بشيء من الترف الفكري أو الفكاهة السياسية.
كنت أقرأ كتاب الأكاديمي المتمرس “سمير خلف” والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت “لبنان في مدار العنف”، وهو جهد بحثي استغرق سنوات مع فريق عمل صدر باللغة بالإنكليزية، ونقله إلى العربية بإتقان “شكري رحيم”. هذا الكتاب فيه مخزون من القراءات السياسية والتاريخية ما يكفي للقول، إنه منذ ما قبل ولادته في 1920 كان كياناً ينطوي على شيء من الحيرة الأشبه باللغز: كانت عملية إدارته سياسياً مسألة في منتهى الصعوبة، كما كان جمعه في نسيج اجتماعي متلاحم أصعب شأناً.
من مضامين الكتاب وفي “حروبه بالوكالة” كان الحل يأتيه من الخارج، وكانت القوى الأجنبية والوسطاء الإقليميون على رغم دورهم في إشعال فتيل الأعمال العدائية تتدخل لاحتواء مجريات النزاع في اللحظة التي تمس مصالحها الاستراتيجية، خذ مثلاً أحداث 1860 الطائفية وأحداث (ثورة 1958) كان السبب الأكبر والأهم فيهما لوضع حد للنزاع هو أن مصالح القوى العظمى كانت تقضي بأن يعود الاستقرار إلى لبنان، وهذا ما أنتج ما يسمى بروتوكول المتصرفية وجعله متصرفية عثمانية بضمان الدول الست الموقعة على الاتفاق.
كذلك الأمر في عام 1958 يوم كان موقع لبنان وأهميته الاستراتيجية في أوجهما، وكان يصنف بكونه منتمياً إلى المعسكر الغربي، نظراً لكونه مدعوماً من “مبدأ أيزنهاور” والواقع أن اتفاق السلام الذي وضع حداً للحرب آنذاك قد تم نتيجة وساطة أميركية– مصرية.
وفي حرب 1975 لم تجد القوى العظمى مصالح حيوية ومباشرة تقضي بتدخلها في الجولات الأولى فترك لبنان وحده، كمتنفس عن صراع أشمل حتى لا تقع حرب عربية– إسرائيلية، إلى أن وجد الفرقاء الكبار وفي طليعتهم الولايات المتحدة ومعها لاعبون إقليميون، كالسعودية وسورية التي انغمست فيها إلى أعلى نقطة في رأسها، أنه آن الأوان لوضع حد للحرب التي أكلت الأخضر واليابس، فجاء اتفاق الطائف 1989 بصيغة جديدة توزع فيها السلطات المتنازع عليها بين الطوائف!
علينا أن نتذكر أن معظم النزاعات التي دفعت الأفرقاء المحليين لإشعالها وبالتالي توريط لبنان بها، تم وضع حد فوري عبر تسويات سياسية دعمتها قوى عظمى وأخرى إقليمية. لقد كان تعبير “اللبننة” وما زال، بمعناه التشويهي المهين، كما يذكر صاحب الكتاب، يمتد أحياناً بحيث يشمل الكوارث الطبيعية وما ينتج عنها من أضرار تلحق بالضعفاء وغير المحميين من الناس الضعفاء.
الحقيقة المفجعة أن تاريخ لبنان السياسي في معظمه هو في الواقع مراحل متقطعة من العنف، باستثناء دورات من الازدهار المؤقت (مرحلة حكم فؤاد شهاب على سبيل المثال)، ومن يجتزئ التاريخ لا يجانبه الصواب، ومن لا “يرى” غير الحقبة السوداء التي يعيشها هذا البلد منذ الوصاية السورية وقبلها الوصاية الفلسطينية والوصاية الإيرانية لاحقاً والتي بلغت مداها الأقصى في السنوات الأخيرة، فهو لا يريد العودة إلى الوراء ويقتطع محطات مفصلية من دورات العنف والتدخلات الأجنبية.
سألت دبلوماسياً لبنان خدم فترة في منطقة الخليج العربي عن رؤيته للخلاص، فقال: “أثبتت الوقائع التاريخية أننا مرتهنون ومحكومون من الخارج، فالسنّي بمكان والشيعي بمكان والماروني بمكان والأرثوذكسي بمكان والدرزي بمكان، وهذه تركيبة بلد لا وطن”!
من يحكم ويتحكم في لبنان وفي القرار السيادي فيه غير آبه لما وصلت إليه الأوضاع، فما زال يتلهى بالقشور وبالمماحكات والهرطقات السياسية الممجوجة التي أظهرت تفاهة معظمهم وفشلهم بإدارة دولة جديرة بالاحترام.
موضوع الدعوة إلى الحياد أشبه بمن يؤذن في مالطة، فالمسألة تحتاج إلى من يأخذ بيد هذا البلد من غير أبنائه ويفرض عليه حلا يلتزم به الجميع لا سيما إذا توافرت قوى عظمى دولية تمتلك النفوذ والأدوات والمرجعية، ووجدت لها مصالح استراتيجية تستدعي التدخل.
لبنان كان وما زال “حاضنة” لقوى خارجية، طالما بقيت أطراف وطوائف تستقوي بها وترتهن إليها، ففي اللحظة التي تتوغل فيها طائفة أو مجموعة من المكونات الدينية والحزبية الأخرى، تأخذ البلد إلى الهاوية وتدخله بالحائط المسدود، وهذا ما تجده في أحداث العنف والهزات الكبرى التي واجهته أو اقتيد إليها.
لا أدري كيف يستقيم الحياد، في بلد يتعايش فيه مجموعات من الأضداد، وإلى جوانبه براكين وزلازل وفي المحيط الجغرافي الأبعد؟ سيكون من الصعب أن تمنع عنه الارتدادات طالما كان هناك من الجماعات من يخرج من حدوده تحت مسميات ودوافع متعددة ومتغيرة.
أليست إسرائيل من لعبت بالساحة اللبنانية في الحرب الأهلية وصولاً إلى عام 1983 وكانت حبل الخلاص؟! مثلما كانت سورية “شعبين في بلد واحد” ومن قبلها مصر في عهد جمال عبدالناصر، والبعث بجناحيه السوري والعراقي، والآن جاء دور طهران من خارج الملعب العربي، فالعلة في الداخل وليست في أي مكان آخر!