أحلام إمبراطوريات إقليمية بأفكار القرن السابع
بقلم: رفيق خوري
النشرة الدولية –
القوى الإقليمية تنمو، وسط تراخي الكبار، وقدر العرب أن يواجهوا الظاهرة الجديدة بعد القديمة: السعي لإقامة إمبراطوريات إقليمية على حسابهم بعد نهاية الإمبراطوريات العالمية في الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ثم الحرب الباردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي.
أيام الثنائية القطبية في النظام العالمي كانت القوى الإقليمية منضبطة، سواء تحت جناح واشنطن أو موسكو أو في “عدم الانحياز”، وأيام الأحادية الأميركية ازداد انضباط القوى الإقليمية وحتى بقايا القوى العالمية، أما بعد انكفاء أميركا مع أوباما وترمب وصعود الصين واستعادة روسيا لبعض مكانتها، فإن القوى الإقليمية وجدت الفرصة سانحة للتفلت، إذ اللعبة بلا قواعد في نظام أو لا نظام عالمي.
الصحافي الألماني جوزف جوف يسميه “عالم قوتين ونصف” والأكاديمي الروسي فيتالي نعومكين يتحدث عن “اضطراب ثنائي القطب” في النظام العالمي، والمؤرخ البريطاني تيموثي غارتن آش يفضل تعبير “نظام متعدد الفوضى”. ومهما يكن التوصيف، فإن أبرز لاعبين على المسرح العربي، بعد إسرائيل، هما تركيا وإيران.
تل أبيب توظف الأساطير والخرافات في استخدام القوة لاحتلال الأرض العربية، وتركيا توظف تاريخ السلطنة العثمانية، وإيران توظف الغيب.
ذلك أن الرئيس رجب طيب أردوغان يلعب الورقة على الوجهين: هو من جهة، وريث السلطان محمد الفاتح، ومن جهة أخرى، وكيل مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة، ويندفع تحت عنوان “العثمانية الجديدة” في احتلال شمال سوريا، وتنظيم الحملات العسكرية شمال العراق، وإرسال الأسلحة والعسكر والمرتزقة إلى ليبيا لمشاركة الإخوان المسلمين في الحرب الأهلية، والبحث عن حصة في النفط والغاز شرق المتوسط، ويقف أمام ضريح أتاتورك ليخاطبه بالقول “القائد أتاتورك، نحن أعضاء مجلس الشورى العسكري الأعلى نقف في حضرتكم، ونحن مستمرون في العمل للتوصل إلى أهداف 2023 لتركيا أسستموها وأوكلتموها إلينا”، والمقصود بالطبع العودة إلى “الميثاق الملي” الذي رسم حدود تركيا بعد الحرب ولحظ “شمال سوريا والعراق وبعض جزر إيجه والمتوسط ضمن الحدود” التي جرى تجريد تركيا منها في معاهدة “لوزان”، والهدف البعيد هو إعادة شكل من الخلافة الإسلامية يلعب هو دور “الخليفة” ويمد السلطة إلى حيث يستطيع الإخوان المسلمون.
والرمز قوي في بدء الصلاة في آيا صوفيا حيث اعتلى خطيب الجمعة المنبر، وهو يشهر سيفاً إحياء لعادة عثمانية، ويقول “ها هي لهفة أحفاد الفاتح قد انتهت”.
ثم كتبت مجلة “الحياة الجديدة” المقربة من أردوغان “إلى الخلافة: إن لم تكن الآن فمتى؟ إن لم تكن أنت، فمن؟”.
والمرشد الأعلى الولي الفقيه علي خامنئي يحدد في “رؤية النموذج الإسلامي الإيراني خلال 50 سنة “الهدف الأخير بعد الانتقال من “النظام الإسلامي” إلى “الحكومة الإسلامية” و”المجتمع الإسلامي”: “الخلافة الإلهية”.
فضلاً عن أن الدستور ينص على “السعي لبناء الأمة الواحدة في العالم”، ويضيف إلى مهام القوات المسلحة في حراسة الحدود مهمة “الجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”.
وهذا طبعاً يحتاج إلى ظهور “المهدي المنتظر”، أما الآن، فإن إيران، كما يقول الجنرال محمد باقري، “تكتفي بالنفوذ الذي أنجزناه في العراق وسوريا ولبنان واليمن”، ثم العمل على “صفقة إقليمية – دولية تعترف لنا بالعمق الاستراتيجي”.
لكن اللعبة أشد تعقيداً وصعوبة مما يتصور أردوغان وخامنئي، فليس من السهل إقامة إمبراطوريات إقليمية بأفكار من القرن السابع في القرن الـ21، من حيث سقطت الإمبراطوريات العالمية، لا اقتصادياً، وقد انهار الاتحاد السوفياتي القوي تحت الضغط الاقتصادي، ولا جيوسياسياً، لأن العرب لن يبقوا ضعفاء ولن يتخلوا عن المواجهة، والكبار ليسوا جمعيات خيرية حين تقترب أية قوة من تهديد مصالحهم الحيوية في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وشرق المتوسط، ولا أيديولوجياً، إذ لا جاذبية لأيديولوجية الملالي في طهران إلا لدى مكونات مذهبية، ولا شيء اسمه أيديولوجيا عند أردوغان سوى أيديولوجيا الإخوان المسلمين التي كشفت العواصم العربية أنها غطاء للعنف والقمع في أنظمة سلطوية.
فضلاً عن أن الصراع التاريخي بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية الصفوية الفارسية مرشح للتجدد، أقله للتنافس، بين الإمبراطوريات الجديدة.
يقول روجر كوهن في “نيويورك تايمز”، “تعلمت أن التاريخ يمكن أن ينير، ولكن يمكن أن يعمي أيضاً”، أليس ما اختاره قادة تركيا وإيران هو العمى التاريخي؟