“سماع الشرق” معرض الإرث الموسيقي العربي المنسي في مارسيليا

النشرة الدولية –

يقدم متحف حضارات أوروبا والمتوسط MuCEM في مدينة مرسيليا الفرنسية، بالتعاون مع مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية “أمار” AMAR، معرضًا حول الموسيقى التراثية العربية الشعبية بعنوان “سماع الشرق: أشكال موسيقية منسية يُعاد إحياؤها.” ويقترح هذا المعرض على متذوقي الموسيقى التراثية العربية أقدم التسجيلات الموسيقية والغنائية في العالم العربي، أي تلك المتراوحة ما بين العامين 1903 و1970، ويستمر هذا المعرض حتى 4 يناير(كانون الثاني) 2021، في جو من الإقبال الملحوظ لمتذوقي الموسيقى التراثية العربية على الرغم من ظروف الوباء المنتشر في العالم حالياً. وصدر عن دار النشر الفرنسية أكت سود Actes Sud كتاب مرافق للمعرض وضعه كتاب متخصصون في الموسيقى التراثية العربية بإشراف فادي العبدالله ومنهم: كمال قصار رئيس مؤسسة “أمار”، ومصطفى سعيد، وطارق عبدالله، وفريديريك لاغرانج، وجان لامبير، وغيرهم، وتناولوا في هذا المؤلَف خصائص الموسيقى التراثية العربية الشعبية وتطورها والمراحل التي مرت بها منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (1903).

يضع المعرض بين أيدي رواده من ناحية أولى 60 أسطوانة موسيقية نادرة ومحفوظة من التراث الموسيقي الشعبي العربي تعود إلى بدايات القرن العشرين. فيقع الزائر على أولى التسجيلات الموسيقية التي قامت بها شركات أجنبية قدمت إلى العالم العربي العام 1903، ثم يجد في ترتيب كرونولوجي أسطوانات الموسيقى المسجلة في حقبة الحرب العالمية الأولى والسنوات الأولى التي تبعتها (1914 -1920)، ثم أسطوانات تعود إلى مرحلة الهبوط التي تلت الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى مؤتمر الموسيقى الذي أقيم في مصر سنة 1932. ثم تأتي ما بعد العام 1930 الأسطوانات التي ظهرت بعد الراديو والطفرة التكنولوجية والتسجيلات الجديدة وهي جميعها أسطوانات زودت مؤسسة البحث والتوثيق “أمار” المعرض بها واختارتها من مجموعتها الكبيرة والفريدة من التسجيلات.

ويزخر هذا القسم الأول من المعرض بأسطوانات ولمحات موسيقية محلية تعود لمختلف الدول العربية أبرزها مصر ولبنان والشام والعراق واليمن وتونس وغيرها، كما أنها أسطوانات فيها موسيقى أعلام بارزين في عالم الموسيقى التراثية العربية الشعبية كمثل: الشيخ درويش الحريري وفتحية أحمد وأم كلثوم ويوسف المنيلاوي وإيليا بيضا وماري جبران ونادرة أمين ومحيي الدين بعيون وعبد الحي حلمي وغيرهم.

أما القسم الثاني من المعرض فهو قائم على 12 فيلماً يتراوح الواحد منها بين 15 دقيقة و30 دقيقة، وهي أفلام قامت بتصويرها مؤسسة البحث والتوثيق “أمار” بين العامين 2016 و2019 رغبة منها في المحافظة على آخر الشعراء وحافظي الموسيقى التراثية. فيقع الزائر على أفلام مصورة لآخر شعراء السيرة الهلالية ولموسيقى يزيدية أو ندبة يزيدية وموسيقى دينية سريانية وغيرها. 12 تسجيلاً للعادات الشعبية الشفهية من موسيقى السريان والآشوريين والكلدانيين والفرق الصوفية والمجودين الذين يُعدون نادرين وتُعدُ موسيقاهم على وشك الاندثار والوقوع في غياهب النسيان.

ويستقبل المعرض نحو الألف زائر يوميًا بحسب كمال قصار مؤسس “أمار”، ويقول قصار في حديث أجريناه معه بأن الإقبال على المعرض كبير وقد حظيت هذه التسجيلات التي تُعد أقدم التسجيلات الموسيقية والغنائية في العالم العربي بإعجاب المتذوقين. ويلفت قصار إلى أن الأجانب أيضًا معجبون بالموسيقى التراثية والعادات الشفهية وليس العرب وحدهم الذين عبروا عن فرحهم بهذا المعرض، فيقول قصار: “أنا موجود هنا في المعرض في مرسيليا منذ اليوم الأول وأنا راضٍ جداً عن طريقة تفاعل الجمهور مع المجموعة. أرى الزوار يتابعون الأفلام ويقرأون المعلومات ويشعرون بالفضول تجاه هذا الإرث الموسيقي.” ومن ناحية أخرى يأسف قصار للظروف المحيطة بالمعرض ويؤكد أنه كان من المفترض أن تكون هناك نشاطات مباشرة وعروض موسيقية حية وحفلات ترافق المعرض وتُعرض كل يوم إنما لن يستطيع المتحف إقامتها بسبب الكورونا.

كانت مؤسسة أمار هي مزود معرض “سماع الشرق” بالأسطوانات والفيديوهات، وليس هذا معرض المؤسسة الأول، فقد استقبلت برلين العام 2018 أسطوانات المؤسسة النادرة، وقد نال المعرض الذي أُقيم آنذاك رواجاً هائلاً وزاره حوالى مئة ألف متذوق للموسيقى التراثية العربية الشعبية. ويتحدث قصار الذي يُعتبر اليوم صاحب أكبر مكتبة موسيقية عربية وأكبر أرشيف لموسيقى التراث العربي، عن نشوء مؤسسته قائلاً: “بدأ الأمر بشرائي مجموعة موسيقية ضخمة من مصر وهي مجموعة عبد العزيز عناني، بناء على نصيحة الصديق المستشرق المتخصص بالموسيقى التراثية العربية فريديريك لاغرانج، وعندما صارت هذه الأسطوانات في حوزتي أردت أن يستفيد منها الآخرون، أردتهم أن يكتشفوها وأن يستمتعوا بها وأن يروا إلى أي مدى هي رائعة ونادرة. من هنا جاءت فكرة هذه المؤسسة لنشر الموسيقى التراثية العربية التي باتت مجهولة في عالمنا اليوم. واليوم للمؤسسة مركز في قرنة الحمرا في لبنان وهي تضع بين أيدي متذوقي الموسيقى مجموعة أسطوانات نادرة وفريدة وغير موجودة في أي مكان آخر في العالم العربي.”

ومؤسسة “أمار” التي بدأت باقتناء زهاء 2500 أسطوانة باتت اليوم تملك عشرة آلاف أسطوانة وهي أكبر مجموعة من هذا النوع الموسيقي. وقصار، الذي يملك شبكة علاقات راسخة مع متخصصين في الموسيقى ومتذوقيها في العالم العربي، ما يزال يبحث عن الأسطوانات القديمة النادرة ويقتنيها ليحافظ عليها وينشرها ويضعها بمتناول الموسيقيين والمتذوقين. فتشتري المؤسسة الأسطوانات من أفراد أو من أصحاب مجموعات كبيرة، وذلك من مختلف الدول العربية، وبعد شراء الأسطوانة يتم تصنيفها بالسمع ثم يتم إدراج معلوماتها (السنة والنوع والمؤدي والموسيقي…) ثم يتم تغليفها وتنظيفها من الشوائب في حال وجودها قبل حفظها. وقد ساهم تطور الإنترنت والتكنولوجيا ووسائل تحسين الأصوات في تعزيز هذا المشروع وتدعيمه والمحافظة بشكل أفضل على الأسطوانات. وأصدرت المؤسسة العام 2011 المجموعة الكاملة لأعمال يوسف المنيلاوي لمناسبة مرور مئة عام على وفاته، وجاء هذا المجهود فريداً من نوعه وبالغ الأهمية في هذا المجال.

ويعتبر قصار أن من أهداف المؤسسة حماية الإرث الموسيقي العربي والموسيقى الشفهية الشعبية، والمساهمة في نشر هذه الموسيقى ليكتشفها الناس، والمساهمة في إعادة تأهيل الأسطوانات التي فيها شوائب، ومساعدة الأبحاث في هذا المجال. ويؤكد قصار قائلاً في حديثه معنا: “الغرض من جمع هذه الأسطوانات ليس متحفياً، إنما هو إيصال الموسيقى إلى الموسيقيين والمتذوقين على حد سواء لإحياء هذه الموسيقى.”

ويصنف المتخصص بالموسيقى التراثية العربية وأحد مؤسسي “أمار” المستشرق الفرنسي والاكاديمي فريديريك لاغرانج الموسيقى العربية ضمن ثلاث خانات كبرى غير قابلة للاختزال هي: موسيقى شعبية، وموسيقى كلاسيكية، وموسيقى ترفيهية تروج لها الشركات الكبرى اليوم. ويعتبر لاغرانج في حديث أجراه معه الناشر والمترجم ومدير سلسلة “سندباد” في دار نشر أكت سود الفرنسية فاروق مردم بيك، أن الطرب هو حالة تركيز المستمع على مقطوعة موسيقية تتكرر ألحانها عدة مرات وتثير في نفس المتذوق هذا نشوة مع كل تغير يطرأ على اللحن. من هنا اعتبار الموسيقى التراثية العربية الشعبية طرباً، أو ضرباً من ضروبه.

“سماع الشرق: أشكال موسيقية منسية يُعاد إحياؤها” معرض يندرج في سياق حماية الموسيقى التراثية العربية الشعبية من خطر الاندثار والامحاء والنسيان. أسطوانات قديمة ونادرة وفريدة من نوعها بالإضافة إلى تجهيزات وعروض سمعية وبصرية منقولة على شاشات كبيرة تحاول أن تعيد للناس إرثهم الموسيقي المفقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى