مأزق الفردية والمجتمع المدني في النظام السياسي العربي
بقلم: د. نادية عويدات

النشرة الدولية –

يواجه العالم العربي أزمة حكم مستعصية منذ بروز مفهوم الدولة الحديثة، القائم على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، والحق في المشاركة السياسية لجميع أفراد الشعب. مفهوم الدولة الحديثة تطور في أوروبا عبر تاريخ طويل من التجارب السياسية والاجتماعية، وبعد حروب دينية وثورات فكرية، حتى وصلت إلى ما هي قائمة عليه الآن من مُثل عليا أساسها، ولو نظريا، ضمان الحريات الفردية لكل مواطن وحقه في المشاركة الفعلية في بلاده، وعلى أساس قاعدة المواطنة المتساوية.

توهمت معظم شعوب بلادنا أننا بعد دحر الاستعمار، سوف نحقق ما حققه هؤلاء، ونبني أوطانا تكرم شعوبها وتوفر لهم بيئة آمنة للإبداع والازدهار والحرية. هذا الوهم سببه أننا لم نفهم حقا أسس المواطنة والديمقراطية واعتقدنا بأنها سهلة البناء.

منذ الاستقلال والدول العربية، ربما باستثناء تونس، تسير من سيئ إلى أسوأ، فهي اليوم إما دول فاشلة تمزق الحروب أوصالها، أو دول دكتاتورية لا يجرؤ مواطنوها على التعبير عن أي نقد أو رغبة في المشاركة السياسية، أو دول شبه دكتاتورية تحاول دولا إقليمية أو دولية باستمرار التدخل في مسارها لدفعها نحو دكتاتورية كاملة أو نحو الهاوية، خوفا من وصول شبح الديمقراطية إليها.

فلماذا لا يستطيع العرب إلى حدود اليوم حكم أنفسهم بسلمية وبلا قمع، رغم أن لديهم من الموارد ما يحسدون عليه، سواء الطبيعية أو المواقع الجغرافية أو الإرث التاريخي الهائل؟ لماذا لا تتوفر في هذه الدول كرامة إنسانية وسياسية واجتماعية؟

منذ الاستقلال والدول العربية، ربما باستثناء تونس، تسير من سيئ إلى أسوأ

من الصعب أن نتأمل بقدوم مستقبل أفضل ما لم نبن في ثقافتنا مكونا أساسيا تقوم عليه الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان ألا وهو احترام حقوق الفرد. تقوم الدول التي تحمي حقوق الإنسان ويتم فيها التداول السلمي للسلطة بتقديس حقوق الفرد في قوانينها المدنية. نعم الفرد. ليس المجتمع وليس العائلة ولا القبيلة، ويقينا ليست الأفكار مهما كانت مقدسة. ليس حتى السماء نفسها ذات حقوق هنا، ففكرة السماء والغيب تختلف من شخص لآخر.

لا أحد يستطيع أن يحكم على فرد آخر بأنه مرتد لتركه المسيحية واعتناقه البوذية مثلا، وذلك لأن لكل فرد حق اختيار معتقده وتغيير هذا المعتقد كما يشاء ومتى يشاء. يحق للفرد ألا يؤمن بالرب أيضا، فترى مؤلفين مثل ريتشارد دوكنز يؤلف كتاب “وهم الإله” ولا حق لأحد بإيذائه أو التطاول عله بأي شكل من الأشكال، يعيش حياته بشكل طبيعي دون تهديد، لأن حقوق الأفراد وليس الأفكار هي وحدها القانون.

قارن وضع هذا المؤلف ـ مثلا ـ بالمفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد، أستاذ الدارسات الإسلامية في جامعة القاهرة والذي تم تكفيره رغم إيمانه بالإسلام، لمجرد أنه أنتج فكرا جديدا لا يعتمد على إعادة صياغة الماضي السحيق. حين تهدر الروح من أجل فكرة قد تكون صائبة أو مخطئة فهذه منظومة تحتقر الحياة نفسها وتخلق مجتمعات تضع الأفكار ـ والتي تتغير باستمرار ـ فوق الإنسانية. ولهذا، لا وجود لمجتمع في هذا العالم يقدس الأفكار فوق البشر يعيش فيه الناس بحرية وكرامة وأمن.

تقديس حرية الفرد قد تكون الدين الفعلي للدول التي يحلم شبابنا وشاباتنا بالهجرة إليها، فمجتمعاتنا قائمة في معظمها على قمع الفردية ومنع الاختلاف، وعندما تتقلص حقوق الأفراد يسهل تأسيس سلطوية سياسية واجتماعية. إن احترام الفرد يعني أنه لا يجوز لأي جهة، سواء العائلة أو الدولة أن تفرض إرادتها عليه. الأفراد في الدول الغربية يترعرعون على هذه الثقافة منذ نعومة أظافرهم فيدركون في أعماقهم أن حياتهم ملك لهم وحدهم وليست لأحد سواهم، فحتى لو كانوا أطفالا صغارا لا يجوز للآباء انتهاك حقوقهم. ولذا، لا تتردد الدولة في حماية هؤلاء الأطفال من ظلم أو اعتداءات أهاليهم عليهم. هذه الحقيقة صدمت الكثير من المهاجرين إلى دول غربية والذين جلبوا معهم ثقافة “أطفالي ملكي أنا” أفعل بهم ما أشاء.

وهكذا فإن السؤال الذي يواجهنا هو كيف نؤسس لمجتمعات تشرع قوانين مدنية عادلة تقوم على المساواة واحترام حرية الأفراد؟ أحد الحلول تكمن في بناء مؤسسات مجتمع مدني قوية، وهناك ثلاثة نماذج لذلك؛ أولا، قد يتم التغيير من الأعلى للأسفل، كما فعل أتاتورك عندما حول تركيا من مركز للخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية، معتمدا على النموذج الأوروبي، لكن المشكلة في هذا المسار أن معظم الدول العربية تحكمها نخب لا هم لها إلا البقاء في السلطة، وغير مهتمة أساسا بمصير شعوبها ومجتمعاتها. وليس هذا فحسب، بل تجد كثيرا من النخب الحاكمة بلغت من الغطرسة بحيث أنها لا ترى سببا لوجود البلد بدونها، مثل شعار “إما الأسد أو نحرق البلد”.

المسار الثاني هو من الأسفل للأعلى أي عن طريق مؤسسات المجتمع المدني التي تقوم ببناء أفراد قادرين فعلا على خلق منظومة تحترم حقوق الإنسان. ولعل تونس مثال على هذا المسار، فبالرغم من أن الرئيس السابق زين العابدين بن علي كان دكتاتورا سلطويا إلا أنه تبنى علمانية سمحت في وجود مجتمع مدني ونسوي قوي، مما أدى إلى تمكين الأفراد، نساءً ورجالا، قاموا في النهاية بإنقاذ بلادهم من مصير مجهول، وكتابة دستور علماني يقوم على احترام حقوق الإنسان وليس على أفكار سلطوية. ورغم محاولات كثير من الدول المجاورة التأثير على مسارها، إلا أن تونس لا تزال النموذج المثالي في المنطقة.

أما السيناريو الثالث هو دمج لكلا الأسلوبين بحيث تحاول سلطة حكيمة تغيير القوانين والعادات فيما تترك يد العنان للمجتمع المدني لتثبيت المكاسب.

من الصعب أن نتأمل بقدوم مستقبل أفضل ما لم نبن في ثقافتنا مكونا أساسيا تقوم عليه الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان ألا وهو احترام حقوق الفرد

في هذا السياق، فإن التحدي في الشرق الأوسط متمثل في موقف السلطة السياسية من مؤسسات المجتمع المدني. فبالرغم من أن هذه الأخيرة لها دور رئيس لا غنى عنه في تجنيب البلاد أزمات العنف والدمار على المدى البعيد، إلا أن السلطات السياسية تملك فهما مغلوطا للأمر، إذ ترى أنه ما لم يتم التحكم التام بجميع فئات الشعب بشكل خانق فإنها ستفقد السيطرة عليها تماما.

في دول أخرى يُسمح لمؤسسات المجتمع المدني بالعمل ولكنها تفتقر لدعم مادي، وأحيانا قانوني، قد يمكنها من إحداث تغيير حقيقي على أرض الواقع، فيما يتم في المقابل تمرير قوانين تمنع التمويل الخارجي من مؤسسات غربية تدرك أهمية العمل المدني لبناء أوطان قوية ومستقرة.

وفي أحيان أخرى وإن تم السماح بتلقي تمويل خارجي إلا أنه يكون مصحوبا دوما بتخوين من قبل الحكومات، التي لا تسمح بفهم مركب لطبيعة المجتمعات الغربية التي تحتوي مؤسسات فعلا خيرية تهدف لدعم البشرية.

لكن، بشكل عام، لا تسمح الدول العربية إلا في ما ندر للأفراد المميزين ببناء مؤسسات مجتمع مدني. خذ مصر على سبيل المثال تحت حكم عبد الفتاح السيسي، فقد قام نظامه بمسح مؤسسات المجتمع المدني عن الوجود، فيما يرقد أكثر شباب مصر وطنية، أولئك الذين ساروا لتحريرها من القمع، في غياهب السجون.

وهناك أيضا المملكة السعودية، والتي قامت بسجن مئات الشباب المبدعين الطامحين أيضا للنهوض ببلدهم كما فعلت بفهد البتيري، الشاب السعودي الفذ الذي أسس أنجح قناة يوتيوب، وكذلك زوجته لجين الهذلول، المدافعة عن حق المرأة في القيادة في السعودية، فأمثال هؤلاء يرقدون في السجون ويتعرضون للتعذيب ثمنا لإبداعهم وفرديتهم.

فهل يا ترى سيكون لبلاد تقتل مبدعيها معنويا وجسديا مستقبل مزهر؟!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى