ميرال الطحاوي في رحلة البحث عن تراث القبائل بين مصر وليبيا

النشرة الدولية –

تفرد الروائية المصرية  ميرال الطحاوي، عبر جهد أكاديمي، قسماً من أحدث كتبها “بنت شيخ العربان”، الصادر عن دار “العين” في القاهرة، لرصد جذور فنٍ شعري نسائي في الأوساط البدوية التي تنتمي إليها، نشأة ونسباً، هو “غَنَاوة العَلَم”.

وهو كما ورد في الكتاب، مِن فنون الشعر الشفاهي البدوي، التي تسمى أحياناً “حجة”، وهي نوع من الأبيات الشعرية المغناة في الأعراس، أثناء الممارسة الاحتفالية المسماة بـ”كف العرب”؛ ذلك الطقس الاحتفالي الذي يواكب حفلات الزواج. وترجع بدايات الاهتمام بتدوينه إلى ما يزيد على مئة عام بواسطة عدد من المستشرقين، ما لفت انتباه باحثين عرب إليه، فوضعوا كتباً تتناوله، كانت ضمن مراجع الطحاوي في كتابها الذي يؤرخ بالأساس للمجتمعات البدوية في مصر، وجذورها في شبه الجزيرة العربية وارتباطاتها الثقافية والاجتماعية بالأمازيغ في أنحاء مختلفة من شمال أفريقيا، وقبائل الشام والعراق وفلسطين والأردن.

وصاحبة روايات “الخِباء” والباذنجانة الزرقاء” و”نقرات الظِباء”، تعمل أستاذاً للأدب العربي في كلية اللغات العالمية والترجمة في جامعة آريزونا الأميركية، وقد فازت روايتها “بروكلين هايتس” بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2011، وكانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية للعام نفسه.

“الغَنَاوة” إذن هي تلك الأغنية القصيرة التي تحتفي بالمحبة في إطار بَوْحي، عِشْقي، تصاحبها أشكال التعبير الجسدي التي يتم من خلالها فضح مشاعر العشق، تلك المشاعر التي لا يمكن لابنة البدو الاقتراب من دوائرها، والتلصص عليها، اللهم إلا في الأعراس، أو بعض المناسبات الخاصة، التي قلَّما يتاح فيها مثل هذا الاختلاط الحذر والمحسوب، بين مجتمع الرجال، وبين عوالم نساء البدو.

وتقول ميرال الطحاوي: “لم يكن المضمون العشقي أو خطاب المحبة الذي تصرح به أبيات شعر غناوة العلم، هو وحده ما قادني إلى الشغف بهذا الفن البديع، فقصائد الشعر البدوي المسماة بالمجاريد، كانت بدورها تتفنن في حَبك عبارات الغزل الصريح، التي أرهقت جسد المرأة وصفاً وتغزلاً، موظِّفةً الاستعارات الحسية؛ المُكنى به منها والصريح، في التراث البدوي الشعبي، لكن تظل أبيات غناوة العلم باباً وحدها في تصور واستحضار المحبة والمحبوب شعراً”.

 

وتضيف: “كانت مشاعية شعر الغناوة، وتجهيل اسم مؤلفه، وقوانين الحظر المفروضة على تداوله وتمثُّله، ونُظُمه، وما أحيط به من سرية وكتمان، بخاصة في مجالس النساء، عوامل عزَّزت لديَّ فرضية أنها مثَّلت وعاءً فنياً سمح للمرأة شكلاً ومضموناً، بالتعبير من خلاله عن مواجدها ومشاعرها، متسترةً بما فُرِض حول هذا المصنَّف الشعري مِن محاذير وقوانين أثتاء التداول، فالغناوة ليست قصيدة تنسب إلى شاعر، بل هي قول يؤدى ويُنسب إلى المجموع، ومن ثم فقد ظل الرواة يتناقلون شعر العَلَم من دون محاولة لنسبته إلى شاعرٍ بعينه من شعرائهم المعروفين في ظل مجتمع يرى عفة نسائه في نكران مشاعرهنّ، وفحولة رجاله في الغزل الصريح، لا في التذلّل والتودّد والحنين” (الكتاب صـ 195).

وفي الجانب التطبيقي في هذا البحث، تورد الطحاوي أمثلة منها: “يكسيها ضباب الياس العين وين ما راق جواها” (يكسو عيني ضباب اليأس، كلما خطر طيف الحبيب بالبال، أو مرَّ بذاكرتي)… و”بكيت كيف بيك أطمعت وبكيت في اضياعك يا عَلَم” (بكيتُ في اليوم الذي تمنى قلبي حضورك وطمع في الاستئناس بك، وبكيتُ في غيابك أيها المحبوب).

وتضيف: “كنتُ وما زلتُ أرى أن الترميز، والتجريد، والإغراق في إلغاز دلالي واسع الإحالة، آليات دفاعية للتخلص من مأزق الإسقاط على ذات الكاتبة، وحيلة من حيل التعبير الأنثوي للبوح والتعبير عن مكنون الذات في مجتمع يرى في البوح والتصريح بمشاعر المحبة فضيحة”.

ويلاحظ – وفق ما ورد في الكتاب- أن انتشار هذا الفن، يأخذ مساراً جغرافياً محيطاً بإقليم برقة الليبي، في المنطقة الحدودية التي كانت في ما مضى جيباً كثير العدد للقبائل القيسية العربية، التي عاشت طويلاً على الحدود المصرية الليبية، وخاضت تغريبة طويلة في شمال أفريقيا، وإليها ينتسب جميع العرب الساكنين على الساحل، غرب الإسكندرية، وخصوصاً قبيلة بني سُليم، وتاريخ هذا الشعر يتقاطع مع تاريخ قبائل السيرة الهلالية، أو القبائل التي يطلق عليها الهلالية والمكونة من سُليم وهلال معاً، وقد ولدت “غَنَاوَة العَلَم” كميراث إبداعي للعرب المغاربة من سليم وهلال، وعبرت إلى الشرق والجنوب مع بعض القبائل التي اضطرت للرحيل من الغرب إلى مديريات مصرية أخرى، كالشرقية والفيوم، وإن ظلت كثافة حضوره ومصادر انتشاره مرتبطة بإقليم الغرب من السلوم حتى تخوم برقة ودرنة الليبية.

ويعد مارتن هارتمن (1851- 1919) أول الرحالة الذين اهتموا بالتراث الشعبي البدوي في الصحراء الغربية التي تقع بين مصر وليبيا، وهو ألَّف في 1899 كتاباً بعنوان “أغاني الصحراء الليبية”، وقد دوَّن فيه ما يزيد على 185 بيتاً من شعر الغناوة الذي هو لدى البعض، كما تقول ميرال الطحاوي، رسالة وجدانية موجَّهة إلى شخص غير معلوم، يشار إليه بلفظ (عَلَم)، وهو اسم نكرة، يحمل إضماراً ما بأنه الشخص المقصود بالغناوة، سواء كان ذكراً أم أنثى، وهي أيضاً من زاوية نظر أخرى، رسائل عاطفية شعرية قصيرة، تدور حول الرجاء في الوصال، والتحنان، وتعبر عن كل حبٍ مستحيل بين امرأة صعبة المنال، وبين عاشق يائسٍ محروم. والقوالب اللغوية التي تتشكل فيها أبيات الغناوة، بحسب ملاحظة الطحاوي، مطروقة ومتعارف عليها، مثل أبوابه وموضوعاته، التي يصعب التمرد عليها واستحداث غيرها. وتلك القوالب اللغوية المستقرة هي ما تجعل وحدات بنية بيت الغناوة الثلاث تتشكل على هيئة أحجية أو قطع البازِل، التي يمكن التلاعب بها صوتياً ودلالياً؛ من خلال التقديم والتأخير، لخلق حبكة ما في الأداء. صـ 235.

وتقول الطحاوي: “في الكثير من المحاولات التي قمتُ فيها بجمع بعض المجاريد وأشعار العَلَم مِن جيوب قبَلية في الشرقية أو البحيرة أو الفيوم (محافظات مصرية) كنتُ أُقابَل؛ أنا ابنة العرب، بكثيرٍ من التوجس، وعلى الرغم من الروابط القبلية التي كانت تجعل الدخول إلى عالم النساء مهمة سهلة، خصوصاً بعد التأكد من هويتي وصلات القرابة والنسب، لكن ذكور القبيلة كانوا في الحقيقة يستهجنون ويتشككون في جدوى دراستي، فلم يكن من السهل تقبل أن تكون المرأة مصدراً لجمع التراث الشفاهي، فعادة يسود شعور بأن ما تخبئه النساء من أشعار، وما تحفظه، لا يرقى إلى مستوى الجمع والتسجيل، والأخذ به في الاعتبار”. وتنقل الطحاوي عن عبدالسلام قادربوه قوله في كتابه “أغنيات من بلادي”: “ما دامت نسبةٌ كبيرةٌ جداً من أغاني العَلَم هي حصيلة علاقات مختلفة بين رجال ونساء، فهي تشكل حواراً متصلاً؛ نصفُه يمثل وجهة تظر المرأة، والنصف الآخر يمثل وجهة نظر الرجل”. صـ285. وتنقل عن ليلى أبو لغد قولها في كتابها “مشاعر مُحجبة”: “إن من المميزات التي سمحت لهذا الفن أن يتم تقنينه، وقبوله من المجتمع المحافظ، هو انتماء هذا النمط إلى تقاليد النظم البدوي، والارتياح لفكرة أنها قولُ الأجاوِد أو القدماء، وبذلك يتم التخلص من الحرج الذي يحمله مضمونها العاطفي، ويبعد الشبهة عن الناقلين”.

وعموماً فإن كتاب “بنت شيخ العربان” الذي يتألف من 333 صفحة من القطع المتوسط، يحرك مياهاً راكدة ويكشف مناطق مسكوتاً عنها في التاريخ المصري الحديث، فهو يتضمن دراسة في التاريخ الثقافي والتراث الشفاهي للعربان في مصر، وأهدته الكاتبة إلى “شيخ مشايخ العربان، الأخ والوالد الصديق عبد الحميد عبد الستار الطحاوي”. يتضمن الكتاب ثلاثة أقسام، الأول بعنوان “قُطَّاع الطرق النبلاء: سيرة من سكن أرض مصر من العربان”، والثاني عنوانه “صورة شيخ العرب في المخيلة الشعبية المصرية”، والثالث بعنوان “غناوة الحب في الشعر الشفاهي النسائي البدوي”.

ابنة العرب، أي ميرال الطحاوي التي تعيش وتعمل منذ سنوات عدة في الولايات المتحدة الأميركية، تحكي بلغة الروائية والأكاديمية، عن الهوية والأصل وغرائب عوالم البدو، وتسرد حكايا الجدات، وما ورثته عن القبيلة، وتسأل سؤالها الجوهري: هل ذاب البدو واختلطوا في المجتمع المصري، أم ظلوا يشكلون أقلية إثنية وعرقية داخل المجتمع؟ مَن خلق تلك العزلة، كيف أينَعت تلك الهوية المشطورة للعربان؟

في هذا الكتاب تبحث ميرال الطحاوي في جرأة وشجاعة نادرتين عن تلك العلاقة الشائكة بين العربان وأصحاب الأرض من المصريين، بين القبيلة والأرض المزروعة، بين الحضر والبدو، ذلك الصراع بين ثقافتين اقتسمتا تاريخ مصر وأرضها وخيراتها، وتجاورتا لقرون، لكن هذا الجوار لم يمحُ ظلال تلك العلاقة المرتبكة بين طرفَي نقيض، ظلّ كل منهما يحتقر ويقدس في الوقت ذاته غريمه.

لا تحاول ميرال الطحاوي التأريخ لعربان مصر، أو دورهم الثقافي والاجتماعي والأدبي في المجتمع المصري، ولا تحاول الدفاع عنهم، لكنها تحاول – فقط- أن تفهم علاقتهم الشائكة بذلك الوطن الذي سكنوا فيه، وظل حنينهم الجارف إلى نقيضه، كما تحاول فهم جذور تلك “العنجهية” والترفع على الحاضرة التي استوطنوها، وكيف ظلت ثقافتهم الصحراوية مهيمنة على تراثهم الشفاهي الذي شكل هويتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى