لبنان: قرن بين مجاعتين* هشام ملحم

النشرة الدولية –

النظام السياسي اللبناني يحتضر. المريض في قسم العناية الفائقة وما يبقيه قادر على التنفس البطيء هو نظام ضعيف لدعم الحياة. في الحالات السابقة التي اقترب فيها النظام اللبناني من غرفة العناية الفائقة كان الانقاذ المؤقت يأتي من الخارج: من دول عربية أو غربية، أو من عائدات اللبنانيين في الخارج.

هذه المرة المريض المتعجرف الذي غرر بنفسه عندما اعتقد أن مصيره وعافيته تهم العالم، وكأنه لاعب دولي كبير يدين له العالم بالكثير، هذه المرة المريض يجد نفسه وحيدا، ومعزولا، غير قادر حتى على تحمل أسعار الأدوية الغالية، التي وإن توفرت لن تشفيه من أمراضه التي تسبب بها عندما تجاهل عافيته الاقتصادية وبقي يطوف على بحر من الفساد خلال العقود الفائتة. هذه المرة المنقذ لن يأت من السعودية، أو من فرنسا، أو من الولايات المتحدة، ولن يأت من صندوق النقد الدولي، الذي يستغرب المراقبون أنه لم يتخل عن المريض الأرعن حتى الآن.

مأساة لبنان اليوم هي أن احتضار النظام السياسي، وتحديدا الطبقة السياسية/الاقتصادية المفترسة التي ترفض التخلي عما سلبته وغنمته من المال العام كما ترفض الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، لأن هذه الإصلاحات سوف تمس بمصالحها. هذه الطبقة مستعدة لأن تضع لبنان كمجتمع وشعب في حالة احتضار بعد أن فاقت معدلات الفقر أكثر من ستين بالمئة من اللبنانيين، وبعد أن فقدت الليرة حوالي 85 من قيمتها خلال الأشهر القليلة الماضية. كثيرون في لبنان ينامون على معدة خاوية في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

قبل قرن من الزمن وخلال الحرب العالمية الأولى شهدت منطقة جبل لبنان مجاعة بعضها من صنع بشري، وبعضها بسبب موجة الجراد التي اجتاحت المنطقة. المجاعة حصدت ثلث سكان الجبل، والمناطق المجاورة أي حوالي 200 ألف نسمة. وإذا كانت “الإنفلونزا الإسبانية” قد اجتاحت العالم وقضت على الملايين في 1918، فإن لبنان اليوم يعاني مثله مثل العالم من جائحة كورونا التي زادت من قسوة محنته الاقتصادية. وبدلا من حرب عالمية، يعاني لبنان من الحروب الإقليمية المحيطة به، وهو الذي لم يخرج كليا أو متعافيا من سنوات حربه الطويلة.

الطبقة السياسية/الاقتصادية المفترسة مستعدة لأن تضع لبنان كمجتمع وشعب في حالة احتضار

وحده جراد الحرب الأولى غائب عن المشهد المأساوي اللبناني الراهن. عنوان كتاب للباحثة نجوى قطان يلخص هول مأساة لبنان ما بين 1915 و1918: “عندما أكلت الأمهات أطفالهن”. قد تكون رواية “الرغيف” للروائي اللبناني توفيق يوسف عوّاد الصادرة في 1939 أفضل، وقطعا أول مدخل أدبي إلى أهوال الحرب العالمية الأولى في لبنان حيث ينسج عوّاد عالما من القصص المتداخلة ببعضها البعض عن الحرب والثورة والظلم والاضطهاد والجوع والقتل، وأيضا البطولة.

سنوات المجاعة وتلك التي تلت الحرب شهدت مآس اجتماعية خانقة من بينها البؤس الذي عانى منه آلاف الايتام وتفكك العائلات التي فقدت معيلها بسبب النفي القسري (سفر برلك) إلى الأناضول (أناطوليا) الذي مارسته سلطات الاحتلال التركي بحق آلاف الشباب اللبنانيين، ومن بينهم جدي الياس ملحم، الذين أرغموا على العمل بالسخرة، حيث قضى العديد منهم بسبب الأمراض.

مأساة لبنان اليوم مرشحة للتفاقم وسوف نشهد أعمال عنف وانتقام وقسوة ستكون محدودة في البداية، ولكنها ستتفاقم مع تفاقم العوز والفقر والجوع، وسوف تؤدي بدورها إلى تفكك العائلات، والمزيد من الأيتام والثكالى. معظمنا لن يكون على قيد الحياة عندما يكتب الروائيون والمؤرخون في العقود والأجيال المقبلة عن الكارثة اللبنانية الراهنة، المصنوعة محليا بأيد لبنانية قذرة وغير خفية.

صحيح أن لبنان عانى منذ 1975 من تدخل القوى الإقليمية والدولية بشؤونه الداخلية، وهو تدخل كانت أطراف لبنانية تشجعه عندما يكون مؤاتيا لمصالحها، ما حوله إلى مسرح اقتتال فلسطيني ـ إسرائيلي، وسوري ـ إسرائيلي ولاحقا إيراني ـ إسرائيلي وسعودي ـ إيراني. ولكن أمراء الحرب اللبنانيين والطبقة الأوليغارشية التي خلقتها الحرب ونفط الخليج لم تتعلم أي شيء من الحرب ولم تستخلص أي دروس منها.

العقد السياسي والمالي الذي تبناه أمراء الطوائف والطبقة الأوليغارشية الجديدة بعد النهاية الرسمية للحرب في تسعينيات القرن الماضي هي التي أوصلت لبنان إلى كارثته الحالية.

هذا العقد السياسي المصهور في الجحيم خلق قشرة رقيقة واصطناعية من الرخاء الاقتصادي في بيروت وبعض المناطق، ولم يخلق اقتصادا حقيقيا إنتاجيا، بحيث أصبح الاقتصاد الوهمي مبنيا على بيع العقارات وبعض الخدمات (التي بالكاد توفرها بنية تحتية متخلفة تشمل قطاعات الاتصالات والمواصلات) والاستثمارات الخارجية وودائع اللبنانيين من الخارج والتي خلقت أكبر كذبة في تاريخ لبنان الحديث تمحورت حول نظام مصرفي افتراضي.

  تعامل “حزب الله” مع الانتفاضة منذ البداية كان يوحي بأن أي انتفاضة تتحول إلى مشروع ثوري تغييري وحقيقي، يعني أن مثل هذا المشروع التغييري سوف يقابل بثورة مضادة يقودها “حزب الله”

قروض توفرها المصارف بالدولار للدولة وللسياسيين، ليس لبناء اقتصاد حقيقي (لبنان يستورد ثمانين بالمئة من احتياجاته بما في ذلك الأغذية والادوية والوقود) بل لمشاريع وهمية، الامر الذي أوصل مديونية لبنان إلى المرتبة الثالثة في العالم في نسبة الدين العام من الناتج المحلي.

ولتخدير الشعب اللبناني بدأت المصارف بتقديم معدلات فوائد خيالية لا تقدمها أي مصارف في العالم، واستمرت الخدعة، طالما استمر تدفق الدولارات إلى السوق اللبنانية. خلال هذه الفترة ربط المصرف المركزي بشكل اصطناعي سعر الدولار بـ 1,507 ليرة.

وعندما بدأ تدفق الدولارات يخف في 2019 سارع المصرف المركزي، ولكن بعد تأخر طويل بتحويل الإيداعات الخارجية بالدولار إلى العملة اللبنانية لكي يواصل الحصول على الدولار الذي يحتاجه لبنان لدفع قيمة مستورداته. وبدأت المؤسسات المالية التي تقيم أهلية الدول على تسديد قروضها الخارجية مثل Fitch Ratings بتخفيض لبنان إلى خانة الدول المشكوك بقدرتها على تسديد ديونها.

في أكتوبر الماضي وعبر قرار يائس ومتهور فرضت الحكومة ضريبة بنسبة عشرين بالمئة على استخدام خدمة WhatsApp الأمر الذي فّجر الانتفاضة الشعبية التي عمت كافة المناطق اللبنانية، والتي لا نزال نرى بعض تداعياتها حتى الآن. وفي مارس الماضي أخفق لبنان للمرة الأولى في تسديد دفعة هامة من قروضه الخارجية.

ما يفاقم من حدة المأساة اللبنانية، وما يجعل حلها قريبا بمثابة الأمر المستحيل، هو أن مصير البلاد هو في يد تنظيم مسلح اسمه “حزب الله” يدين بالولاء إلى النظام الإسلامي في إيران ويمثل ذراعه الضاربة في سوريا ولبنان، خطف أو رشى أو أرهب قوى لبنانية أخرى مثل ما يسمى بالتيار الوطني الحر (الذي ليس تيارا، ولا وطنيا ولا حرا) على التحالف معه.

“حزب الله”، يلتقي حتى مع القوى السياسية المناوئة له على موقف موحد ضد الانتفاضة الشعبية التي طالبت منذ البداية ببناء نظام سياسي جديد وليس إصلاح نظام غير قابل للإصلاح، عبر شعار “كلن يعني كلن”. التحالف الشيطاني بين “حزب الله” وأمراء الطوائف والأوليغارشية اللبنانية بدأ منذ انطلاق الانتفاضة في اللعب على المخاوف والموروثات والحساسيات الطائفية والمذهبية لتقويض وتزوير الشعارات والمواقف والطروحات الوطنية والديمقراطية التي طالبت بها معظم القوى التي نظمت نشاطات الانتفاضة في أسابيعها الأولى.

يجب أن نكرر للمرة الألف أن خلاص لبنان لن يأت من الغرب، وقطعا لن يأت من الشرق إن كان هذا الشرق إيرانيا أو صينيا

تعامل “حزب الله” مع الانتفاضة منذ البداية كان يوحي بأن أي انتفاضة تتحول إلى مشروع ثوري تغييري وحقيقي، يعني أن مثل هذا المشروع التغييري سوف يقابل بثورة مضادة يقودها “حزب الله” ويؤيده بذلك وبدرجات متفاوتة أمراء الطوائف الأخرى والأوليغارشية.

أي مراجعة موضوعية للوضع الاقتصادي في لبنان، تقودنا للقول إن المستقبل القريب للبنان يتراوح بين الداكن والمظلم بالمطلق. وبين الداكن والمظلم سوف نرى انفلاتا أمنيا عبر ازدياد عمليات السرقة والنهب والخوات وأعمال عنف غير منظمة لن يكون من الصعب تخيل إعطائها أغطية مذهبية وطائفية للتمويه والتضليل. ودوما وأبدا سوف يبقى سيف الاقتتال المذهبي والطائفي معلقا فوق رؤوس اللبنانيين، أو حرب تمويه يشنها “حزب الله” ضد إسرائيل لقلب المعادلات والهروب إلى الأمام.

الكتابة عن لبنان مؤلمة ومحبطة حتى قبل الأزمة الحالية. ماذا يكتب المرء عن طبقة حاكمة معظم أعضائها يتحدثون ثلاث لغات على الأقل، معظمهم من خريجي أفضل الجامعات اللبنانية والعالمية، ولكنهم في الوقت ذاته مستعدون للتصرف كأعضاء في مافيا إجرامية إذا تم الكشف عن جرائمهم ضد اللبنانيين، أو تم المس بمصالحهم الاقتصادية والسياسية.

يجب أن نكرر للمرة الألف أن خلاص لبنان لن يأت من الغرب، وقطعا لن يأت من الشرق إن كان هذا الشرق إيرانيا أو صينيا، بل سيأتي من اللبنانيين أنفسهم، من الذين سيثورون أولا ضد من نصّبوا أنفسهم أوصياء على مصيرهم، قبل أن يبدأوا بهدم الصرح المتفسخ الذي أوى الطبقة المفترسة، وبناء الدولة المدنية والحوكمة الديمقراطية. ولكن قبل الوصول إلى تلك المرحلة أمام لبنان معمودية نار طويلة ومؤلمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى