حصار غزة إلى متى؟
بقلم: د. سنية الحسيني

 

النشرة الدولية –

أتمت غزة الشهر الماضي أكثر من عقد ونصف العقد من الحصار. ورغم أن الحصار غير مألوف في عصرنا الحديث لمدن أو لمناطق تقع تحت الاحتلال، اذ تعامل المجتمع الدولي مع فرض عقوبات أو حصارٍ أقدمت عليه الولايات المتحدة بمفردها أو بدعم دول حليفة لها أو بتأييد من الأمم المتحدة، لدول كاملة السيادة اعتبرتها أميركا وحلفاؤها «دولاً راديكالية» مثل العراق وإيران وسورية والسودان وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا، الا أن حصار دولة الاحتلال لغزة رفضه المجتمع الدولي باعتباره عقاباً جماعياً ضد شعب محتل لا حول له ولا قوة، حُبس في رقعة ضيقة من الأرض المسيطر عليها من جميع الجهات، حيث تُرجم ذلك الرفض بقرار مجلس الأمن رقم ١٨٦٠ الذي دعا إسرائيل لرفع حصارها عن غزة. ولغزة وضع مختلف عن أي مكان آخر، قد يفسر سياسات الاحتلال تجاهها، وهي سياسات ومواقف ليست بالجديدة، ولم تظهر فقط بعد حدوث الانقسام الفلسطيني وسيطرة حركة حماس على غزة، بل جاءت قبل ذلك بكثير. ويستمر الاحتلال في حصار غزة، في ظل صمت العالم، اذ باتت المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الانسان تكتفي برصد معاناة الغزيين وتدوين البيانات ونشرها، والتعامل مع هذا الحصار كأمر واقع، واكتفت المساعدات الدولية المخصصة لغزة بخفض آثار الحصار الكارثية، دون البحث عن حقيقة المشكلة المتمثلة بالاحتلال الجائر الممتد منذ عقود على الفلسطينيين.

غزة، ذلك الشريط الساحلي الصغير الممتد في أقصى جنوب فلسطين، والتي لا تتجاوز مساحتها الحالية ٣٦٥ كيلو متراً مربعاً، بعد أن قلص الاحتلال مساحتها الحقيقية، والتي حددتها اتفاقية الهدنة لعام ١٩٤٩ بأكثر من ٥٥٠ كيلو مترا مربعاً، تعتبر من بين مدن المنطقة القديمة، التي يعود التأريخ بوجودها إلى العهد الفرعوني، أي منذ أكثر من ٤٠٠٠ سنة، واكتُشف العديد من الآثار الرومانية فيها. وطالما كانت غزة تاريخياً على قمة قائمة الأحداث، بسبب موقعها المميز، اذ تُعتبر بوابة القارة الآسيوية لأفريقيا، والمنطقة الحدودية الفلسطينية البحرية من الجنوب. ورغم موقعها المميز والخاص، لم يكن ذلك هو السبب الوحيد لاهتمام الاحتلال بغزة، واستثنائها بمعاملة قاسية مقارنة مع غيرها من المناطق الفلسطينية، اذ كانت غزة وحتى قبل احتلالها صرح المقاومة والتحدي لمخططات الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي يفسر سياساته الخاصة الموجهة لإحباطها وتقويض سكانها. ففي خمسينات القرن الماضي، وبعد احتلال أراضٍ شاسعة من فلسطين عام ١٩٤٨، كانت غزة قلعة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال خلال عقد الخمسينيات، حيث اغتالت إسرائيل مصطفى حافظ القائد العسكري المصري في غزة، بحجة مسؤوليته عن إرسال مقاومين فلسطينيين داخل الأراضي المحتلة. وفي نهاية الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، وبعد احتلال قطاع غزة عام ١٩٦٧، اعتبر مناحيم بيغن في مذكراته، أن جيش الاحتلال كان يحكم غزة في النهار، بينما يحكم رجال المقاومة الفلسطينية المدينة ليلاً. وفي العقد التالي كانت غزة الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الأولى التي عمت كل فلسطين، ومارست غزة دوراً مهماً في التصدي للاحتلال جنباً إلى جنب مع باقي الأراضي الفلسطينية في الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، ودفعت ثمناً باهظاً من دماء أبنائها خلال تلك الانتفاضة، واليوم تقف غزة صامدة وحاملة سلاح الردع الأخير للاحتلال في منظومة المقاومة الفلسطينية.

من ذلك نستطيع أن نفهم السر وراء سياسة الاحتلال الموجهة ضد غزة، والتي عكستها تصريحات لقيادات إسرائيلية، اذ اعتبر ليفي أشكول رئيس وزراء دولة الاحتلال سابقاً، وبعد احتلال قطاع غزة عام ١٩٦٧، أنه اذا لم يتم توفير ما يكفي من الماء للغزيين، لن يكون أمامهم خيار الا الرحيل، بينما عبر إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل السابق بعد انفجار انتفاضة الحجارة عام ١٩٨٧عن رغبته بأن تغرق غزة في البحر. وبعد توقيع اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣، والتي اعتبرت صراحة، بأن غزة والضفة امتداد طبيعي واحد، أبقى الاحتلال الفصل بين شطري الوطن الفلسطيني موجود، وفرضت الحكومة الإسرائيلية ضرورة الحصول على تصاريح من قبلها للسماح بتنقل الفلسطينيين في وطنهم. ومع تأجج الانتفاضة الفلسطينية الثانية مطلع الألفية الجديدة شدد الاحتلال من اجراءاته ضد غزة، وبات الانتقال من غزة للضفة قضية في غاية التعقيد. وبعد الانقسام عام ٢٠٠٧، وحتى في عهد حكومة الوحدة الوطنية، والتي تشكلت في أعقابه من حركتي فتح وحماس وقوى وطنية أخرى، ما تلا ذلك من حكم حركة حماس لغزة، تركزت الإستراتيجية الإسرائيلية على إضعاف غزة وأهلها وعزلها عن العالم، وفصلها عن امتدادها الطبيعي الفلسطيني. واليوم ورغم وعي الفلسطينيين باستراتيجية الاحتلال، والتي باتت واضحة للعيان، بإبقاء غزة ضعيفة معزولة محاصرة، والحفاظ على الضفة الغربية تحت سيطرتها الأمنية الكاملة، لإحكام التمدد الاستيطاني الصهيوني الجغرافي والديمغرافي، لم يتحرك الفلسطينيون بعد كي يقلبوا ويقوضوا مؤامرة الاحتلال ضدهم.

تحاصر إسرائيل غزة، وتحكم سيطرتها عليها جوياً وبحرياً، بحكم قدراتها العسكرية والتكنولوجية، وبنت الأسوار العازلة لحدودها البرية معها والتي مدتها إلى داخل البحر أيضاً، كما تم إغراق الأنفاق الموجودة على حدودها الجنوبية بالمياه لحصر الحركة في جنوب غزة أيضاً، فتحولت المدينة إلى سجن كبير يضم أكثر من مليوني شخص، تتحكم إسرائيل بتحركاتهم، حتى وإن جاء ذلك ضمن نطاق العلاج غير المتوفر في المدينة الفقيرة. وجهت إسرائيل الدولة النووية، الأقوى مقارنة بأي دولة عربية، أربع حروب مدمرة ضد غزة، دمرت خلالها البنية التحتية للكهرباء والمياه والصرف الصحي لغزة، الأمر الذي حولها لمكان غير قابل لاحتضان الأحياء، حسب وصف مؤسسات دولية. ودمرت إسرائيل اقتصاد القطاع، حيث تشير الأرقام إلى أنها عملت بشكل ممنهج لإضعاف غزة اقتصادياً وبث الفقر والعوز والحاجة والتخلف في جنباتها. ففرضت إسرائيل قيوداً معقدة على حركة الأفراد، والبضائع باتجاه غزة ومنها، فحصرت الحركة التجارية ضمن معبر حدودي واحد بعد أن كانت هناك أربعة معابر مختلفة قبل الحصار، وقوضت الصناعة وعمليات الإنتاج، باستهداف متكرر وقصف للمصانع، كما قيدت الحصول على المواد الخام والماكينات وقطع غيارها اللازمة للإنتاج والتصنيع، ومنعت وصولها لغزة بحجة أنها سلع «مزدوجة الاستخدام».

وبعد أن كانت غزة تساهم بأكثر من ٣٧٪ من الناتج الإجمالي المحلي الفلسطيني عام ١٩٩٥، وكان نشاطها الاقتصادي يساهم بثلث الاقتصاد الفلسطيني قبل الحصار، بات نشاطها الاقتصادي لا يتجاوز اليوم الـ ١٨٪. وشكلت صادرات غزة خمس صادرات فلسطين في العام ٢٠٠٠، الا أن ذلك تراجع إلى ١٠٪ في العام ٢٠٠٦، وباتت تترواح ما بين ١٪ و٣٪ خلال سنوات ما بعد الحصار، والتي بقيت ضمن نفس المعدل إلى يومنا الحالي. قيدت إسرائيل تصدير غزة لإنتاجها الزراعي والصناعي، فأدى ذلك إلى خفض خطوط إنتاج العديد من المصانع، والتي باتت توزع في حدود غزة فقط. وتعتبر صناعة النسيج من الصناعات المهمة في القطاع، الا أن الحصار وتعطيل خروج منتجاتها إلى خارج غزة فرض عليها أن تعمل بربع طاقتها الإنتاجية، كما انخفضت صادرات الأثاث في غزة من ٣٣٪ قبل الحصار إلى ٤٪ من بعده، كما ينطبق ذلك على الصناعات الغذائية، والتي كان يذهب ٩٠٪ منها إلى الضفة الغربية قبل الحصار، وباتت بعد الحصار تعمل بخمس طاقتها الإنتاجية لتغطي السوق الغزي فقط. وأدى ذلك التحول إلى تخلص القطاع الصناعي من نسبة كبيرة من العمالة، ما يفسر سبب انتشار البطالة والفقر في غزة بعد الحصار. أضرت إسرائيل بالقطاع الإنتاجي الزراعي والصناعي في غزة على مدار سنوات الحصار، ليس فقط بإعاقة تصدير  المنتجات الغزية الزراعية والصناعية، وإنما أيضاً باستهداف عسكري منظم للأراضي الزراعية وآبار مياه الري والمصانع وبشكل متكرر.

بعد خمسة عشر عاماً من الحصار في جميع مجالات الحياة بدءاً بالماء والكهرباء وانتهاءً بحجر المعلومات والتكنولوجيا، تنتشر البطالة في غزة بنسبة ٤٩٪، وتخطى معدل الفقر فيها الـ ٥٧٪ وهو الأعلى في البلاد منذ ثلاثة عقود. وباتت غزة مكاناً آخر غير تلك التي عرفناها من قبل، مزهرة مضيئة براقة، فيشعر المار اليوم في شوارعها بالحزن أمام ملامح دمار أربع حروب وفقر وألم مرسوم في العيون، وإن بقيت لمحة التحدي والأمل بتغير الواقع موجودة راسخة لدى الغزيين، تعكسها بوضوح إنجازاتهم العلمية والابتكارية التي لاتزال تبهر العالم. إلى متى سيبقى الانقسام الفلسطيني مستمراً؟ وإلى متى سيبقى عجز وسلبية المجتمع الدولي أمام معاناة الغزيين؟ وإلى متى ستبقى إسرائيل مستهترة بالعالم والعدالة، ومحتمية بحليفها الأميركي وأتباعه من الدول الغربية؟

Back to top button