كارثة بيروت وقطار الفشل العربي* عريب الرنتاوي
النشرة الدولية –
يأتي الدور على بيروت، لتنضم إلى شقيقاتها الغارقات في مستنقعات الخيبة والفشل: دمشق، بغداد، صنعاء، طرابلس، قبلها مقديشيو، وبعدها عدة عواصم تصطف تباعا للسقوط في المستنقع ذاته، ألم نقل في مقال سابق على هذه الصفحة، أن “نادي الدول الفاشلة” في العالم العربي سيستقبل المزيد من الأعضاء الجدد، وأن دولا تقف على حافة الفشل، سنزلق إلى قعره، بعد “الجائحة”، وأن “الفيروس” سيفاقم اتجاهات التدهور ويسرّعها، ويفجّر دينامياتها الكامنة في دولنا ومجتمعاتنا منذ سنوات وعقود…”الجائحة” لم تنشئ وضعا جديدا، وإنما عجّلت في الكشف عن المستور من عوراتنا.
صورتان تكشّف عنهما “الزلزال/الكارثة” الذي أتى على مرفأ بيروت وأحال المدينة برمتها، إلى واحدة من مدن الحرب العالمية الثانية المنكوبة… الأولى؛ المقدار الهائل من الحب والعطف الذي تكنه شعوب المنطقة ومجتمعاتها، بل وشعوب العالم على اتساعه، لهذا البلد الفريد في منطقتنا، ولشعبه المبدع الخلّاق، المتشبّث بالحياة، الذي أجاد في كل مرة، الخروج من تحت الركام والأنقاض، لينهض من جديد…
والثانية؛ مقدار مماثل من السخط والاحتقار، تكنه هذه الشعوب والمجتمعات، للطبقة السياسية الفاسدة، المتحكمة منذ عشرات السنين، برقاب البلاد والعباد، والممسكة بتلابيب عيشهم ومصادر رزقهم… طبقة يتخطى فسادها الإدارة والمال والأعمال، إلى الإفلاس القيمي والأخلاقي، فما عاد يستثيرها انفجار بخمس درجات على مقياس ريختر، أو تبدّل من جداول أعمالها، كارثة بحجم تلك التي حوّلت بيروت إلى مدينة أنقاض وأشاح، تفوح من أرضها وسمائها روائح الموت والدمار والعصف الكيماوي.
بم تختلف بيروت عن بغداد، سوى أن الأخيرة لديها فائض من المال والطاقة، يكفي لستر بعض عورات أمراء الطوائف والمذاهب والمليشيات المدججة بالسلاح والكراهية
قد تبدو الصورة من بيروت، كما لو أن لبنان “استثناء” في محيطه العربي… هو استثناء بلا شك، لجهة ما تعرض له من حروب متعاقبة على امتداد أزيد من أربعة عقود متتالية، حروب أهله وحروب الآخرين عليه، وما ابتُليَ به من نكبات، تكفي واحدة منها، للإطاحة بدول ومجتمعات بأكملها… لكنه ليس “استثناءً” إن نُظر للأمر من زاوية أخرى، زاوية فشل النخب الحاكمة، في إدارة البلاد وتدبير شؤون العباد، لجهة فشل مشروع بناء “الدولة الوطنية” القادرة والعادلة، التي تقف على مسافة واحدة من مواطنيها ومكوناتها، وتواكب العصر لجهة ما تضطلع به من وظائف وتقدمه من خدمات.
بهذا المعنى، بم تختلف بيروت عن دمشق، بل وباقي المدن السورية، التي حولتها حرب السنوات العشر، إلى خرائب ومدن أشباح… ما الذي يميز الطبقة السياسية اللبنانية عن نظيرتها في سوريا، سوى أن دمشق يحكمها ديكتاتور واحد، فيما لبنان محكوم بثمانية عشرة ديكتاتورا، كما قال أحد اللبنانيين ساخرا في تغريدة له على “تويتر”… بم يختلف حال اللبنانيين عن حال السوريين، فيما شرائح واسعة من الشعبين الشقيقين، تبحث عن لقمة عيشها في حاويات الزبالة وتفترش الطرقات، وتنام على “انعدام يقين” على مستقبلها ومستقبل أطفالها؟
بم تختلف بيروت عن بغداد، سوى أن الأخيرة لديها فائض من المال والطاقة، يكفي لستر بعض عورات أمراء الطوائف والمذاهب والمليشيات المدججة بالسلاح والكراهية… لا ماء ولا كهرباء ولا طرقات ولا خدمات صحية وتعليمية بحدها الأدنى، هنا وهناك، فيما الفساد المالي والإداري، والإفلاس الأخلاقي، يكاد يكون حاضرا بنفس الصور والأشكال في العاصمين الشقيقتين.
حال بيروت بهذا المعنى، يشبه حال العواصم العربية، وإن بأقدار متفاوتة من التفاقم، فجميعها “في الهمّ شرق”
إن نحن ذهبنا إلى صنعاء وعدن وطرابلس الغرب وبنغازي وطبرق، لا يبدو المشهد مغايرا… “حروب الأخوة الأعداء” تكاد تأكل الأخضر واليابس، والبلاد موزعة على المحاور والعواصم الكبرى المتصارعة، وروائح الفساد تزكم الأنوف، و”حروب الوكالة” تكاد تأتي على ما تبقى من لحمة وطنية ونسيج اجتماعي.
الخراب لا يتوقف هنا، وقطار التفكك والانحلال يسير من محطة إلى أخرى، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: أي العواصم العربية أكثر ترجيحا لأن تكون “التالية” بعد بيروت؟… الخرطوم المفتوحة على شتى احتمالات “الانتقال” الصعب، رام الله التي شهدت في توقيت متزامن مع كارثة بيروت، نوعا جديدا من “الاحتلال”، لم تنفذه إسرائيل هذه المرحلة، بل “الحمائل المسلحة” والسلاح المنفلت من كل عقال…
تونس التي احتلت مكانة الصدارة في عشرية الربيع العربي بوصفها التجربة الأنجح للانتقال السلمي نحو الديمقراطية، وقد بدأت رياح الفرقة والانقسام، معطوفة على “الخيبة الاقتصادية” تنخر في هذه المنجزات وتهدد بزوالها… القاهرة وخيبات الداخل والخارج محمّلة على “سيناريو العطش المديد”… الباب مفتوح لشتى الاحتمالات، بما فيها وصول قطار الخراب إلى عواصم خليجية، فقدت بوصلتها في الداخل كما في الخارج، ومصائرها تثير من القلق أكثر مما تبعث على الاطمئنان.
بيروت ليست “الاستثناء” في عالم “الخراب العربي”… لا القديم الفاسد، المتآكل والمتهرئ ينوي الرحيل وتسليم الراية، ولا الجديد الباعث على الأمل، قادر على البزوغ وتسلم زمام الريادة… حال بيروت بهذا المعنى، يشبه حال العواصم العربية، وإن بأقدار متفاوتة من التفاقم، فجميعها “في الهمّ شرق”… والعرب موزعون على دول، يحكم بعضها أمراء الحرب والطوائف والمليشيات، وبعضها الأخر محكوم بأنظمة العسكر والطغاة المتجبرين والفاسدين، وبعضها الثالث يخضع لأنماط من حكم السلالات، تليق بالقرن السادس عشر، وليس بمطلع العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين.
الفشل المتكرر والخيبات المتعاقبة، الذي ألم بشعوب المنطقة، سيترك أثرا، قد لا يُمحى إلى حين من الدهر
لم تترك الشعوب العربية فرصة إلا وخرجت فيها معبرة عن رغبتها في التغيير والإصلاح والثورة… لكن “الخراب المقيم” في دولنا ومجتمعاتنا، ينتصب دائما كعقبة كؤود في وجه رياح التغيير وقبضات الشباب والصبايا… هكذا انتهت الموجتان الأولى والثانية من ثورات الربيع العربي، على أمل أن تحظى الموجة الثالثة بمصائر مختلفة ونتائج مغايرة.
على أن الفشل المتكرر والخيبات المتعاقبة، الذي ألم بشعوب المنطقة، سيترك أثرا، قد لا يُمحى إلى حين من الدهر… البعض استغرب دعوات ألوف الشبان اللبنانيين للرئيس الفرنسي الزائر بإعادة الانتداب الفرنسي إلى لبنان… لم الاستغراب؟… أليس هناك من ينافح عن التمدد التركي في المنطقة، ويستعجل عودة “العثمانية الجديدة” لدولنا ومجتمعاتنا؟… أليس من بيننا من جعلوا من أجسادهم جسرا لعبور إيران إلى المنطقة والهيمنة على أربعٍ من عواصمها…. ألا يوجد عرب وكرد و(أقليات أخرى) يستميتون لاستبقاء الوجود العسكري الأميركي ـ الدولي بين ظهرانيهم؟… أليست روسيا بقواعدها وميليشياتها (فاغنر)، مدعوة (على الرحب والسعة) لإقامة دائمة ومريحة على أرضنا وشواطئنا؟…
سأذهب أبعد من ذلك لأجازف بالقول: أليس هناك فلسطينيون في القدس والضفة وربما غزة، يرغبون البقاء تحت السيطرة/السيادة الإسرائيلية، بل والحصول على “المواطنة الإسرائيلية” بعد أن راقبوا بالعين المجردة، انهيار مشروعهم الوطني، وتآكل سلطتهم الفاشلة، وعجزها عن تقديم نموذج مغاير للعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟
من الأسهل، الاكتفاء باتهام هذه الفئات والشرائح من شعوبنا بـ”العمالة” و”الخيانة” و”التساقط”، أو القول، إنها لحظة يأس عابرة… لكن من الأصعب تقديم إجابات حقيقية على أسئلة من نوع: من الذي أوصل هؤلاء إلى هذه النتيجة، ولماذا تبحث شعوبنا عن الخلاص في الخارج وعن طريقه، بدل النظر إلى “دواخلها” بحثا عن بارقة أمل جديد ومستقبل أفضل؟