الفنان عبد القادري يهدي آخر وردة حمراء للبنان* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
افتتح غاليري “تانيت” البيروتي معرضا للفنان التشكيلي اللبناني عبد القادري تحت عنوان “رفات آخر وردة حمراء للبنان”. وضم المعرض عددا من اللوحات التي بدت للوهلة الأولى وكأنها نوافذ مفتوحة على ليل عميق سكنته كائنات بشرية ليست بظلال وليست ذات حضور جسدي في آن واحد. لتتجاور لوحات القادري مع قصائد الشاعرة اللبنانية مريم جنجلو التي تناولت فيها جدلية العتمة والنور.
كان من المفترض أن يستمر المعرض إلى أواخر شهر سبتمبر القادم، ولكنه لم يستمر لأكثر من عدة أيام. لم يستمر لا هو ولا الصالة التي أصابها انفجار بيروت بأضرار جسيمة، فصارت شاهدة على موت التعبير وموت فكرة الاستمرار على هامش وطن لا ينفك يلملم جراحه فترة بعد أخرى.
يحتار المرء في تناول هذا المعرض، الذي نحب أن نسميه بالمعرض الرائي، والصادر عن فنان لم ينفك يدهشنا بحساسيته وقدرته على التقاط الذبذبات المحيطة به، لاسيما تلك التي لا تعرف الاستقرار وتمتد إلى ما هو أبعد منها، يحتار كيف ينظر إليه بمعزل عن معارض الفنان السابقة. وما يضاعف من مصداقية كون المعرض رائيا ما يمكن معاينته من خلال سلسلة المعارض الفنية التي أقامها الفنان اللبناني في السابق.
معارض متتالية واكبت الجزئيات التي ارتجت في الحقل المغناطيسي الذي يسري في رئة البلد شهيقا وزفيرا. معارض بدت وكأنها صفحات فنية مقتطعة من كتاب واحد. كتاب هو في حقيقته سيرة ذاتية لم ولن تستطيع أن تخط كلماتها خارج منظومة عامة، وخيالية حتى الآن، اسمها “وطن”.
لوحات القادري المدمرة باتت شاهدة على موت التعبير وموت فكرة الاستمرار على هامش وطن مأزوم لوحات القادري المدمرة باتت شاهدة على موت التعبير وموت فكرة الاستمرار على هامش وطن مأزوم
نذكر بشكل خاص معرضا سابقا لعبد القادري قدّم فيه شجرة الكاوتشوك التي استوطنت البيوت المهجورة لتسرد قصص أهل المنازل الذين هجروها. أما في معرض آخر عنونه بـ”يا بحر” فلا يناجي الفنان البحر بقدر ما يغمز من قناعته بسوداوية ساخرة تمسّ سطحه المكدّر بأمواج غير بريئة، وكذلك عمقه الذي ابتلع الآلاف من القصص الشخصية التي تخصّ المهاجرين الذين عبروا ولاقوا حتفهم بين طيّاته.
وقد أطلق الفنان على معرض آخر عنوان “أركاديا” ما يعني الأرض المُشتهاة في الأسطورة اليونانية، أكّد عبره وعبر ما وصل إليه اليوم في معرضه الجديد بأن الوطن المحلوم به يبدو أكثر فأكثر كجنة لا هي على الأرض ولا في السماء، ولكن معلقة بين الاثنين، مترنحة على وتر حبال نسائم متأرجحة في فراغ مشحون بالشك والريبة والملل والصبر.
وإن كان عبد القادري في معرضه المعنون بـ”أركاديا” طمح وأمل بنهاية سعيدة لشعب عربي بشكل عام ولبناني بشكل خاص، فإن معرضه هذا تناول اليأس من ظاهرة الأمل دونما اليأس من الحياة طالما هناك رفات وردة حب أخير تُهدى إلى لبنان، وطن النكبات المتنوعة.
هي رفات إذا وليست هرطقات مبتذلة ومُملة لقيامة طائر فينيق ما من الرماد. إنها رفات، ولكنها كفيلة بأن تضيء مصابيح ضئيلة في كل لوحة/ في كل صفحة من كتابه.
لعل البلاغة التعبيرية التي وصل إليها عبد القادري هي في اللوحة/ الرحم التي ولدت منها، على الأرجح معظم اللوحات. إنها اللوحة التي يبدو فيها خيال كائن بشري وبقربه، وعلى مستوى صدره، ترتفع بتيلات وردة صارخة اللون لا عروق لها تُهدى إليه أو العكس، أو تقف هكذا معلقة في الفضاء في وسط لوحة مؤلفة من ثلاثة أشخاص/ أطياف، سوداء تنير وتُستنار في آن واحد.
أطياف سوداء
Thumbnail
في هذه اللوحة كما في باقي اللوحات تدفّقت عتمة الليل إلى ألوان الفنان كالقطران السائل والحامي. كما فارت ومضات ألوانه الصارخة على سطح السيل القطراني الجارف لتُضيء ما حولها ولتبرز أكثر بفضل الظلام.
يقول الفنان عن معرضه “رسمت اللوحات ما بين عاميْ 2018 و2019، وهي ليست رد فعل حرفي على الكآبة السائدة، ولا نوعا من استبطان السيرة الذاتية، ولكنها تمثّل دعوة للمواجهة والتفكير، وتشير إلى أنه بالميل والشوق لليل أو الظلام نصل في نهاية المطاف إلى التنوير،
ومن المفارقة أن الأسود يبتغي الوضوح، وهو احتضان أعمى لجميع الألوان في وقت واحد، وليس أسودَ في الحقيقة”.
كل لوحات عبد القادري تصوّر جنات صغيرة أعادها بألوانه وفرشاته إلى أرحامها خوفا عليها لتقبع في ظلام غير دامس يشي بوجودها وبحياتها. هناك في تلك العوالم العميقة فسحة حياة صامتة ومؤجلة “تركل” عين المُشاهد كما يركل الجنين في ماء صمته أحشاء والدته.
رفات وردة أخيرة للبنان، هو معرض اشتغل عليه الفنان في محاولة لإنقاذ الأمل. إنه رسالة حب حزينة تتوسل ردا مُشرقا.
أيام قليلة مرّت على افتتاح المعرض وإلقاء عبد القادري برسالته حتى جاء الرد عليها على شكل انفجار هائل أطاح بالصالة، مُبقيا على ثلاث لوحات من أصل 21 لوحة جاء الفنان ليحملها ويغادر.
يذكر أن الفنان اللبناني عبد القادري هو من الذين شاركوا يوميا في ثورة 17 أكتوبر 2019 حتى بعد إصابته إثر اعتداء تعرّض له. أقام ثمانية معارض فردية في لبنان وشارك في معارض جماعية في إسطنبول وبودابيست وقطر والبحرين وأبوظبي وباريس.