بَلَغ لبنان حدَّه.. وانفجر* رشا الأطرش
النشرة الدولية –
كأن انفجار مرفأ بيروت هو المجاز المتحقق، الدّامي وباهظ الثمن، لتفجّر لبنان، المنظومة والدولة والشعب، التناقضات والتماهيات. وَرَم بَلَغ تضخمه الحجم الأقصى، انفقأ وسال قيحه على كامل الجسد المعتلّ أصلاً بأورام كثيرة. وصل لبنان إلى حدِّه، تخمة البركان،.. وانفجر.
مئات القتلى، آلاف المصابين، عشرات المفقودين، وأضرار بمليارات الدولارات.. الأرقام تتهافت، والكلام السائد أنه لا دولة في لبنان. لكن هذا الانفجار يثبت، بالأوراق والوثائق والكثير من الأختام والتوقيعات التي يتداولها الإعلام بكثافة الآن، أن هناك دولة. بل دولة هائلة، هرم فارع، وجذوره ضاربة في الأرض بعمق الحفرة التي قضمت بيروت. انبلجت هذه الدولة في مرفئها. كل هذه المراسلات والسجلات والتقارير، الإدارية والقضائية والأمنية، التي يغرق في تفاصيلها محللون وصحافيون، ويتقاذفها المسؤولون كُرةَ نارٍ في ما بينهم، تقول إن هناك دولة، وبيروقراطيتها بصحة جيدة. وبهذه البيروقراطية ثمة مَن تحايل، وثمة مَن عَرف وشارك أو لم يشارك، ثم حاول أن يحصّن نفسها مسبقاً بتقارير وإحالات، وثمة مَن عرف كيف يخرق القانون بشيء من القانون نفسه، وبكثير من توزيع المسؤوليات.. الضائعة في النهاية.
هي الدولة التي احتلها النظام وجعلها على هيئته ومثاله، فالتركيبة لا بد أن تشابه نفسها: محاصصة، زبائنية، محسوبيات، فساد. دولة تنظم مهرجانات واحتفالات، ولا خطة كوارث لديها، وطواقمها تصاب بالشلل شبه التام لحظة المأساة. لكنها دولة. بهيئاتها ومدرائها وقضاتها وضباطها، بصغار كَتَبتها، وكبار مسؤوليها. ماكينة جهنمية، عدد لا يحصى من المحركات والتروس، وتعقيد وتداخل مع الطوائف والعصابات ورؤوس الأموال.
ثمة دولة في لبنان، وهذه هي، وهذا خطابها. من أبسط عيّناتها، “البازل” الذي يبدو المحامي الشاب محمد زعيتر، قطعته الوسطى، متشابكة مع والده وزير الأشغال السابق غازي زعيتر، ومكتب المحاماة “بارودي” الذي تقدم بطلبات حجز على الباخرة نيابةً عن وكلائه الذين قيل أن لهم مبالغ في ذمة مالك السفينة والذي عاد وتخلى عنها وعن طاقمها. وتشتبك أيضاً مع قطعة المدعي العام التمييزي غسان عويدات باعتباره خال محمد، وعويدات يتابع الآن ملف الانفجار كنائب عام عدلي بعد إحالة الجريمة على المجلس العدلي. ومثل هذه التشابكات الكثير الكثير، مما نعرف ولا نعرف.
لذلك أتى انفجار مرفأ بيروت، جريمةً كبرى، مجزرةً بكل ما للكلمة من معنى.. لكن من دون أن يكون صنيعة مجرم واحد أو مجموعة مجرمين محددة. مجزرة ليست من تبعات حرب أو حتى ابتلاء بكارثة طبيعية. ولا جهة إرهابية بعينها فَرَدَ أعضاؤها خريطة تحت ضوء منخفض لينفذوا خطة مُحكَمة.
انفجار المرفأ، جريمة دولة تتغذى من بيروقراطيتها لتنتج المزيد من هذه البيروقراطية التي تقتات عليها التنفيعات، وهذه الأخيرة فيتامينات النظام. الدولة والنظام، في لبنان، مصّاصا دماء استنفدا كل العروق، وما عاد لكل منهما سوى الآخر ليبقيه حياً-ميتاً. والانفجار أيضاً جريمة الزيجة الباطلة بين الدولة، بمدنييها وعسكرها، وبين دويلة الميليشيا ذات الجيش الرديف والأجندة الموازية. وهذه مواد متفجرة، غامضة المصدر والمسار الذي أوصلها إلى بيروت وأبقاها فيها، في مرفق مدني عام، وفي بلد تُخزّن صواريخٌ تحت أرضه، وهي ليست لجيشه. وهذه دولة ثقيلة بلا وزن، كبيرة بلا قيمة، مترهلة بلا تراكم، شغّالة بلا فاعلية.
في هذه الدولة: رئيس الجمهورية يقول أنه لا سلطة له على المرفأ، وله عَين أن يتحدث اليوم بالهرَمية، وأنه غير مسؤول، وهو الذي لا يتعفف عن التدخل في تعيين حاجب في مديرية. ورئيس الدويلة أيضاً يقول إنه لا يعرف ماذا في مرفأ بيروت، فتطلق بيروت المكلومة ضحكة هستيرية، ويهتز عرش في السماء. ثم يشدّ رئيسا الدولة والدويلة، العزم على تعزية مواطنيهما، فتخرج تلك العبارات المثيرة للغثيان عن “فك الحصار عن لبنان”، و”الفرصة” التي منحنا إياها “الحادث” لنحظى باستثمارات وتمويلات ومساعدات… على أشلاء الناس وحطام بيوتهم.
ولسائل أن يسأل، أين يمكن أن يقف التحقيق، دولياً كان أو محلياً، إن لم يُطِح الكلّ؟ وإن وقع الكلّ، هل يقع معهم لبنان وأبرياؤه؟ لكن لبنان انفجر بالفعل.. وميثولوجيا القيامة لم تنقذ يوماً سوى الآلهة.