العقل الحرّ وشجاعة التّفكير* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
يربط “إيمانويل كانت” استخدام العقل بالشّجاعة، فيقول: “عليك أن تتحلّى بالشّجاعة الكافية لاستخدام عقلك.” فهل يمكن القول إنّ التّخلّي عن استخدام العقل جبن أو تقاعس عن الوظيفة الطّبيعيّة للعقل. لا ريب في أنّ معنى قول كانت لا يندرج في إطار الوظائف العقليّة العضويّة، وإنّما المعنى الأساس هو استخدام العقل كفعل مواجهة قياساً على لفظ (الشّجاعة). كما أنّه فعل إدراك لأهمّيّة استخدام العقل وتبيّن الأمور الّتي يمكن أن تعيق الإنسان وتمنعه لا إراديّاً أو إراديّاً من المواجهة. ولعلّ المواجهة الأهمّ هي تلك المرتبطة بالحقائق الّتي يعيشها الإنسان ويعتبرها حقائق لا لُبس فيها، سواء أكانت حقائق علائقيّة أم اجتماعيّة أم دينيّة أم علميّة أم سياسيّة إلى ما هنالك من حقائق تشكّل منهجاً لحياة الإنسان.
تبدأ المواجهة من حيث ينتهي قول ابن النّفيس: “وربّما أوجب استقصاؤنا النّظر عدولاً عن المشهور والمتعارف، فمن قرع سمعه خلاف ما عهده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيش، فرُبَّ شنع حقّ ومألوفٌ محمودٌ كاذب، والحقّ حقّ في نفسه، لا لقول النّاس له، ولنذكر دومًا قولهم: إذا تساوت الأذهان والهمم، فمتأخّرُ كلّ صنعةٍ خيرٌ من متقدّمها” ويحمل هذا القول في طيّاته معاني المواجهة عندما تنبّه العقل إشارات تقلب الحقائق رأساً على عقب. فينشأ صراع بين قبول الحقائق الجديدة ورفض الحقائق السّابقة أو تلك الّتي اعتبرت حقائق لوقت طويل في حين أنّها مجرّد وهم. فإذا لم يتحلّ الإنسان بالشّجاعة سيصعب عليه تحكيم العقل والإصغاء ثمّ مباشرة البحث ريثما يبلغ الحقيقة المنشودة. فغالباً قليلون من يقبلون مواجهة الحقائق وكثيرون يطالبون بمعرفة الحقيقة بيد أنّهم في اللّحظة الحاسمة يتراجعون ويبادرون بالإنكار، لأنّهم يخشون استقبال ما يخالف قناعاتٍ تربّوا عليها واعتقدوا أنّها حقيقة لا لُبس فيها. لعلّ الإدراك الإنسانيّ في هذه اللّحظة يواجه بقوّة جزءاً لا يتجزّأ من كينونة الإنسان. فالتّعايش مع حقيقة ما يحدّد الكينونة الوجوديّة ومواجهتها ثمّ الانقلاب عليها يخلق صراعاً عنيفاً وخوفاً من فقدان هذه الكينونة، ما يشبه الخوف من الموت. وأمّا عامل الخوف فينتج عن إحساس بعدم الأمان من الانتقال من مرحلة الوهم إلى مرحلة الحقيقة الّتي تفترض عودة إلى نقطة الصّفر ورحلة بحث شاقّ في اكتشاف ملابسات عديدة حتّى يبلغ الحقيقة ويشرع بالتّعايش معها. وأمّا سبب هذا الخوف فيعود إلى الطّريقة الّتي يتربّى عليها العقل في التّعبير عن قلقه المعرفيّ وترجمته.
إذا تربّى العقل على كبت قلقه وشكوكه وتدرّب على قبول ما يُملى عليه دون مناقشة ودون اعتماد مبدأ الكيف واللّماذا فمن الصّعب أن ينشأ حرّاً دقيق الملاحظة، لأنّه دائماً في حالة تلقّي لمبادئ هذه الحقائق فتترسّخ في وعيه ولا وعيه بل تتملّكه حدّ محاربة كلّ تيّار معاكس لهذه المبادئ. إنّ مسألة حرّيّة العقل مسألة مهمّة بل الأهمّ في تكوين الوعي الإنسانيّ. ولا بدّ من السّماح له بالتّفكير في أيّ شي وبالطّريقة الّتي يراها مناسبة والتّعبير عن آرائه بحرّيّة تامّة. فالتّعبير الحرّ إدراك صادق يمكّن الإنسان من تشكيل وعيه الخاصّ ويحفّز لديه الحسّ النّقديّ حتّى لا يقع في فخّ الوهم المفترض حقيقة. فالطّفل يواجه مبدأ العيب وكذلك المراهق وهو في عزّ انقلابه على المنظومات الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة وبالتّالي يصبح راشداً يحمل في داخله الخوف من مناقشة الأفكار مانعاً عنها الجدل الذّهنيّ المؤدّي إلى قناعات خاصّة قد تتوافق أو لا تتوافق مع المتعارف عليه.
قد يعتبر البعض أنّ حرّيّة التّعبير أو الرّفض أو الشّكّ تفلّت من الأصول بيد أنّها عمليّة إفراغ للأفكار فتتجلّى واضحة للإنسان نفسه كما للآخر. ومن خلال المناقشة والحركة الذّهنيّة يتمّ تقويم الأفكار عن اقتناع وليس عن قمع.
حرّيّة العقل شجاعة الإنسان الّتي تنمّي في وعيه القيمة المعرفيّة والرّغبة في البحث والتّحليل ومقاربة الأمور وتحديد الأهداف وبلوغها بعيداً عن أيّ ضغط أو حصار معرفيّ. إنّها الحرّيّة الحافز الّتي تتقدّم بها المجتمعات وتنتقل من مجتمعات جاهلة تعتمد على الخدمة السّريعة للمعرفة وترتكز على من يفكّر عنها ويخطّط لها إلى مجتمعات تفكّر بنفسها وتتبيّن ما يناسبها وتسعى للتّقدّم الإنسانيّ.