عبدالله البردوني شاعر علامة فارقة في الشعر اليمني ويصهر الأشياء والمفاهيم ويعيد تشكيلها
النشرة الدولية –
يمثِّل الشاعر اليمني عبدالله البردوني ظاهرة استثنائية في الشعر العربي الحديث، وعلامة فارقة في الشعر اليمني المعاصر، بخصائصه الأسلوبية المميَّزة وشخصيته الفنية التي زاوجت بين الأصالة والمعاصرة بشكل خلَّاق ينفض رماد الماضي وهو يحمل شعلته دائمة المعاصرة وفي إطار ذلك احتفظ بالشكل العمودي للقصيدة رغم أن الوفاء للأصالة لا يستلزم ذلك بالضرورة.
نجح عبدالله البردوني إلى حد بعيد في التعبير عن المضامين الجديدة للحياة، وإن ظل الشكل التقليدي يحد من ذلك ويؤكد أن في الإمكان أبدع مما كان. هذا ما أكده الناقد صادق القاضي في كتابه “مرايا شعرية متقابلة.. نص عبدالله البردوني”.
واتخذ الناقد شعر البردوني نموذجا للتقابل باعتبار التقابل أهم وأبرز الخصائص الأسلوبية لديه، وأكثر مقومات بنيته الشعرية كثافة وتنوعا وامتدادا، وأهم روافدها الفنية إثارة وجمالا ومفارقة. حيث إنها بقدر ما تؤكد على ذلك بقدر ما تعتبره نموذجا للشعر الحديث بما يمتاز به عن الشعر القديم أو يتشابه معه من حيث الشكل والمضمون التقابلي، واختلاف أو تماثل الخصائص الأسلوبية لهما على محوري الاختيار والتوزيع.
أكد القاضي في كتابه، الصادر عن مؤسسة أروقة للنشر والدراسات والترجمة، أنه فضلا عن الشكل العروضي تتوافر المظاهر التقليدية في أعمال البردوني من جوانب عدة وبخاصة في ديوانيه الأولين من حيث الأغراض والألفاظ والتراكيب والأساليب. الأشياء التي يطول الحديث عنها في هذا المقام.
وقال “تتجلى في ديوان الشاعر أهم الخصائص الأدبية لأطوار الشعر العربي الحديث في مراحله المتعاقبة (الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية)، وفي مقابل السمات التقليدية تتجلى ملامح التجديد على امتداد ديوانه الشعري من خلال الوحدة العضوية للقصيدة ومن خلال الألفاظ والتراكيب والأساليب البارعة في خصوصياتها الفنية والمضامين المواكبة للحياة والمفعمة بقضايا الإنسان وتطلعاته”.
وأكد أن لغة الشاعر، في الأغلب، تتميَّز بالسهولة والشفافية وكثافة التعبير، فهي من السهل الممتنع، ومعجمه الشعري بقطوفه الدانية نابع من صميم الحياة العصرية، ويخلو تقريبا من الإغراب، وله بعده الاجتماعي في مقام الحضور الثري للبيئة اليمنية بشيوع أسماء المناطق والأعلام والأحداث والعادات والتقاليد والأمثال والألفاظ والعبارات الشعبية والاقتباسات من الأدب الشعبي.
كل ذلك جعل شعره عابقا بنكهة الحياة اليمنية المحببة، وقريبا من الوجدان الشعبي للإنسان اليمني. واللغة هي الشاعر، وقد جسّدت لغته شعوره بالمعاناة، ونزعته التشاؤمية والسخرية والرفض والتهكم والنقد اللاذع، وإحساسه بالغربة عن الواقع وانتماءه إلى المفروض واستشراف المستقبل، ورؤيته حول طبيعة المرحلة بكل جوانبها وانعكاساتها لديه، وتحفل لغته بتراكيبها الجديدة في بنائها القائم على كسر العلاقات التقليدية بين الألفاظ، وتحطيم القرائن المنطقية للدلالة، لتشكيل الدلالة غير العادية، والمفاجآت السياقية والمفارقة الشعرية.
ولفت إلى أن النزعة الدرامية تعتبر من أهم السمات والأدوات الأسلوبية التي شكَّل من خلالها البردوني رؤيته الفنية في جل أعماله الشعرية، وفي إطار ذلك اهتم بالحوار لتوصيف العلاقات الجدلية بين أطراف الوضع القائم، وتقمص كثيرا من شخصياته، ونجح بشكل يثير الإعجاب في استكناه أعماقها، والتغلغل في مشاعرها وأفكارها، وتصويرها من الداخل.
وأوضح القاضي أن “التقابل اللغوي ظاهرة نسبية سياقية، وأن ازدواجيته اللغوية والسيكولوجية، مرتبطة بالغريزة اللغوية المنعكسة عن الازدواجية الفيسيولوجية للمخ البشري، وهذا يربطها بالحاجات الإنسانية المُلحَّة إلى هذه الظاهرة، بوظيفتها المهمة والحاسمة في حياة الإنسان، فمن خلالها يتعرف الإنسان على ملامح العالم الخارجي، ويصوغه صياغة عملية يمكن التعامل معه بها، بما يقدمه التقابل من تحديدات وموجهات وقياسات وتوصيف وترتيب وفرز للأشياء والأفكار والمفاهيم والأوضاع والتفاصيل. بحيث يمكن القول بأن من المتعذر -دون هذه التقابلات- أن يتعرف الإنسان على ما حوله، ومن ثمَّ يتصرف بنوع من الحكمة، و”يبدو أن وجود أعداد كبيرة من الألفاظ المتخالفة والمتباينة في مفردات اللغات الطبيعية مرتبط بالنزعة البشرية العامة لاستقطاب الخبرة والرأي”.
وأضاف أنه إذا كانت هذه الدراسة تناولت شاعرا حديثا بكل ما يعنيه ذلك من مظاهر لغوية وأدبية متطورة عن الشعر الكلاسيكي فإن رواسب الكلاسيكية المتمثلة في الشكل العمودي لقصائد الشاعر ظلت تقيد -وإن بدرجات محدودة- قدرات الشاعر وإمكاناته البيانية، وتحصر كثيرا من دلالاته في حدود البيت الواحد وإن كانت قدرات الشاعر الخلّاقة ورؤيته الحداثية الفذة جعلته يتجاوز كثيرا من السلبيات المصاحبة كالعادة للشكل العمودي للقصيدة.
قال القاضي إن دراسته حاولت الدنو من منطق الدراسات النصية والأسلوبية الحديثة واستلهام نظرتها الشمولية وآلياتها التحليلية في تناول ودراسة النصوص الأدبية، والنظر إلى الظواهر البلاغية من خلال، سياقها النصي ووظائفها البنائية فضلا عن دراسة التقابل من خلال دراسة بناه الفاعلة في إحداثه في السياق الذي يتمثل في أصغر أشكاله بالجملة باعتبارها “النموذج المثالي للسياق”.
وعلى بساط الجملة تمت دراسة البنى الصرفية والمفردات وهذه لا تمثل قيمة تقابلية إلا بعلاقاتها بسواها ضمن التركيب، و”لا تحمل دلالة مطلقة إنما تتحقق دلالتها انطلاقا من السياق”. وخلال ذلك تم ربط الجملة بالبيت كعبارة، والإشارة إلى المقام الدلالي العام للقصيدة تلافيا للتجزيء وبتر عُرى النص وإن كان الشكل التقليدي للبيت يعفينا كثيرا من ذلك فيبدو البيت وحدة دلالية متكاملة وربما نصا واحدا في إطار إمكانية تحقق النص في جملة واحدة كما يقول هاليداي ورقية حسن”.
وتابع أن دراسة مستويات اللغة الفنية هي الطريقة المثلى لدراسة المظاهر الفنية والجمالية للغة الشعرية، فعلى كل صعيد من هذه الأصعدة تبرز الفروق بين اللغة الشعرية واللغة العادية بآلياتها ووظائفها، وفي ضوء ذلك تبرز مواطن الجمال وخصائص اللغة الشعرية وقيمها الجمالية ومنابع الإثارة والمفـارقة والتصوير وكثافة التعبير التي لا يمكن تلمُّس جوهريتها ومادتها الأصلية إلا من خلال هذه المستويات، فاللغة هي التصوير الفني والرمز والسياق والشكل والمضمون.
كما تتجلى من خلال هذه المستويات قدرات الشاعر وإمكاناته الفنية وموهبته في تحسس مواطن ومظاهر الجمال وإعادة فرز وتشكيل الأشياء والمفاهيم وصهرها وصياغتها بشكل زاهٍ شكلا ومضمونا، ومدى فاعليته وسيطرته على أزِمَّة اللغة، وقدراته في التصرف في الواقع اللغوي للتعبير عما يريد أن يقوله هو لا ما تقوله اللغة بقواعدها المنطقية. والمستويات التالية تقدم الشاعر أكثر مما تقدم اللغة، فتجسد أساليبه في التعامل مع هذه المستويات لبناء لغته الشعرية وكسر ونسف مسلَّمات اللغة على كل المستويات لخلق تجربته الشعرية الحافلة بالمفارقة الشعرية النابعة من الجدة في صياغة المقابلة وخلق التضاد والتناقض المثير الذي يمثل أبرز مظاهر الفن ووسائله الجمالية.
وأشار القاضي إلى أن التقابل يتمثل بين المذاهب الأدبية ضمن ديوان الشاعر بالانعطافات الحادة في سياق الامتداد النصي الكبير في الانتقال من قصيدة إلى أخرى ضمن أعمال الشاعر، وما يصاحب ذلك من الانتقال المفاجئ من جوّ إلى جوّ مختلف من جوانب كثيرة في الوجدان والفكر وأساليب الصياغة والبناء، مما يقدم مفاجأة سياقية يستشعرها القارئ خلال تقدمه في تذوق وتقييم الأعمال الشعرية لشاعر مثل البردوني.
وترتبط هذه التباينات غالبا بمراحل تطور الشاعر ثقافيا وأدبيا وفكريا، وتطور أدواته الفنية تبعا لذلك، ومن المفترض أن تكون هذه النقلات متتابعة، وإن كان ديوانا الشاعر الأولان يخلطان بينها فتجد الشاعر يكتب بقلم كلاسيكي ورومانسي كلّ على حدة، فتتجاور النماذج وتتتابع خاصة في ديوان “من أرض بلقيس” مما يجعل منه نموذجا واضحا لتقابل المذاهب الأدبية ضمن أعمال الشاعر، أو ما أسميناه تقابلات الديوان.. ومن مظاهر التقابل على هذا المستوى تقابل الأغراض الشعرية، وقد كانت لهذه الأغراض أهمية نقدية حاسمة وحضور قوي في الشعر حتى لقد عدَّها بعضهم أركانا للشعر، كما كانت معيارا نقديا للمفاضلة بين الشعراء الذين ترتفع منازلهم الأدبية بكثرة الأغراض التي يحسنون الخوض فيها، وحسب قول بشار “كان جرير يحسن ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق”.