مقاه “للنساء فقط” ردة اجتماعية بمباركة عربية… يعتبرها آخرون متنفساً تطمئن فيه ضحايا التمييز والعنف
النشرة الدولية –
تقلصت القواعد الاجتماعية والدينية المتزمتة في السعودية، التي تتدخل في أصغر تفاصيل الحياة اليومية، حتى وصلت المقاهي.
كانت المشكلة هي القرار الذي جعل مقهى “نبت فنجان” مركزا جريئا للرياض الجديدة: افتُتِح المقهى في الأصل للنساء فقط، لكنَّه بدأ يسمح للزبائن، الرجال والنساء، بالاختلاط في أواخر 2018.
جعلت هذه الخطوة المقهى متجاوزا للقانون في المملكة، حيث تكون معظم المقاهي مُقسَّمة، بموجب القانون والعادات، إلى أقسام “للعازبين” كلهم رجال، وأقسام “عائلية” للنساء والمجموعات العائلية المختلطة. ويدخل الرجال عبر أبواب مختلفة ويدفعون في طوابير منفصلة، وتأكل السيدات أحيانا وراء حواجز لضمان الخصوصية بعيدا عن الرجال الغرباء.
لكن في مطلع ديسمبر 2018، أعلنت الحكومة أنَّ المشروعات التجارية لن تكون مطالبة بعد الآن بالفصل بين الزبائن والعملاء، في أحدث توسع للإصلاحات الاجتماعية التي بدأها الحاكم الفعلي للسعودية، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
هذا التغيير مثَّل عائقا بالنسبة لبعض الزبائن من النساء اللاتي كن يفضلن الطريقة القديمة.
وإن خففت السعودية القيود القديمة فقد “تبنتها” بعض الدول أين افتتحت مقاه خاصة بالنساء حصرا.
ويقول مراقبون “في وقت كان ينتظر أن تختفي المقاهي الخاصة بالرجال حصرا وتصبح مختلطة كغيرها برز نوع ثالث من المقاهي هي مقاه للنساء حصرا”.
وتجرأت كارولاين كريادو – بيريز (35 عاما)، النسوية البريطانية الشابة على إلقاء حجر في بركة الركود هذه، بعدما نشرت عام 2019 كتابها عن “النساء غير مرئيات: الكشف عن انحياز المعلومات في عالم مصمم للرجال”، الذي تسبب بصدمة إيجابية في العالم الأنجلوفوني، دفعت حكومات كثيرة وشركات كبرى للتواصل مع المؤلفة واستشارتها بشأن تعديل منهجياتها في جمع المعلومات لضمان تجارب عيش أفضل للنساء، سواء في إطار التشريع وتنفيذ السياسات الحكومية أو تصميم الحلول الاستهلاكية للمجموعة التي تشكل أكثر قليلا من نصف مجموع البشر.
وليس سرا الآن أن رئيسة وزراء أسكتلندا، نيكولا ستورجيون شكلت فور اطلاعها على مضمون الكتاب مجموعة عمل رسمية للنظر في طرائق لإزالة الانحياز الجندري من المعلومات التي تستند إليها حكومة أدنبره لدى اتخاذ القرارات.
جمعت كريادو – بيريز في كتابها الذي حاز على عدة جوائز مرموقة مجموعة حقائق وإحصائيات مثيرة للدهشة مُستقاة من مئات الدراسات العلمية لتثبت نظريتها في كون العالم المادي الذي أنتجته الحضارة الغربية وتعيش معظم البشرية على ضفافه اليوم مُصمما في تفاصيله العملية حول الرجل (الأبيض الغربي حصرا)، فكأن النساء مخلوقات خفية وغير مرئية، وليست من النوع الإنساني: سواء تحدثنا عن الصيغة المعتمدة لتصميم إجراءات السلامة في السيارات، أو سياسات التعامل مع النوبات القلبية، أو حجم أجهزة الهاتف الذكية المحمولة باليد، إلى هندسة الطرق وبيئة المباني (كدرجة الحرارة وعدد دورات المياه في الأماكن العامة) والمئات من التفاصيل غيرها، فكل المواصفات والمقاييس والتصاميم تبدو مبنية بشكل شبه كلي على معلومات جمعت عن الذكور (الغربيين غالبا)، وتشيح النظر عن حقيقة اختلاف حاجات النساء المادية، والسيكولوجية، والفيزيائية، عن رفاقهن الرجال، مما يجعلهن عرضة للأخطار وللتجارب اليومية المزعجة، والحاجة لبذل جهد إضافي في إنجاز المهمات المختلفة شخصية كانت أو تتعلق بممارسة المهن على تنوعها.
البعض يقول إن هذا النوع من الأماكن ا يقوض مبدأ المساواة بين الجنسين، التي تفتقدها المجتمعات العربية أساسا صاحبات المقاهي المخصصة للنساء يرون أنها منطقة للتنفس تسمح بالكلام غير المقيد، خاصة بالنسبة للنساء
في تونس، تنتشر المقاهي الشعبية التي يرتادها الرجال دون غيرهم، لكن شابة تونسية أرادت كسر هذه القاعدة وأنشأت أول مقهى للنساء فقط.
على تخوم العاصمة وفي حي التضامن، أكبر حي شعبي في تونس، وفي أفريقيا يزدحم مقهى مخصص للنساء فقط ممن هربن من الاختلاط بحثا عن الخصوصية وأحيانا الحرية.
وفي مدخل المقهى تعترض الرواد لافتة كتب عليها “للنساء فقط”، في إشارة إلى أن المقهى لا يستقبل الرجال وإنما هو مخصص للجنس اللطيف، وتمنع ستائر رسم عليها وجه مارلين مونرو عيون المتطفلين من الشارع المزدحم بمقاهي الرجال عن رؤية ما في الداخل.
تقول صاحبة المقهى أميرة التليلي، وهي خريجة تصميم الأزياء تبلغ من العمر ستة وعشرين ربيعا، إنها أنشأت هذا المقهى انطلاقا من حاجة النساء في حيّها إلى مكان يستطعن الجلوس فيه بحرية.
وتتابع أميرة “في حينا الشعبي المحافظ لا يَسمح الرجال عادة لنسائهم أو أخواتهم أو بناتهم بالجلوس في المقاهي المختلطة خوفا من التعرض للمضايقات”، مضيفة “في حينا لا تجد الفتيات مكانا يجلسن فيه ويتحدثن بحرية عن أمورهن الخاصة في مأمن من الآذان المتلصصة، والمقهى الذي أنشأته يوفر هذه الخصوصية”.
ويأتي معظم زبائن هذا المقهى من الفتيات الشابات للدراسة ولإعداد بحوثهن الجماعية، وبعضهن نساء متقدمات في السن يأتين للدردشة وتمضية الوقت، وأخريات يصطحبن أطفالهن لتذوق ما تعده العاملات في المقهى من مرطبات.
تقول خولة إحدى رائدات المقهى “هذا المكان يمثلني، فهنا أجد الهدوء والراحة ولا أتحرج من الحديث أو الضحك بصوت مرتفع”.
وقالت أسماء السحيري وزيرة شؤون المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن التونسية الخميس إن جزءا هاما من حقوق المرأة “مازال محل هشاشة بسبب عدم تغير العقليات”، مشيرة إلى وجود تهديد كبير لبعض مكاسب المرأة.
وقالت الوزيرة إن جزءا من المكاسب التي تفتخر بها المرأة بصدد التراجع.
عبارة “للنساء فقط” تنطبق أيضا على ديكور المقهى الذي طبعت فيه صاحبته لمساتها الفنية الخاصة مستخدمة خبرتها في مجال تصميم الأزياء.
وتقول أميرة صاحبة المقهى “تطلّب مني إنشاء هذا المشروع الكثير من الجهد والصبر، وقد استغرق مني ذلك عاما تقريبا، فأنا لم أعول على مصممي الديكور، بل حاولت بصحبة أخي توظيف مخيلتنا لإضفاء لمسات أنثوية على المكان حتى يناسب جميع الأذواق”.
ولا يكتفي مقهى “لوباروك” بمنح الإناث فرصة الجلوس بحرية، فهو يوفر فضاءات خاصة ليمارسن هواياتهن أو أنشطتهن. ففي المقهى يوجد ركن للكتب لمن ترغب في المطالعة، وركن آخر لمن تريد ممارسة العزف على آلات الموسيقى، كما يحتوي أيضا على مكان لالتقاط الصور الشخصية، أما الجزء العلوي فهو مخصص للفتيات ممن يرغبن في الدراسة في جو هادئ.
وتطمح صاحبة المقهى إلى توسيع المكان وإضافة ركن آخر ستخصصه للصغار حتى تجد الأمهات فرصة للحديث بحرية دون الخوف على أطفالهن.
وتشجع أميرة المستثمرين على إنشاء فضاءات خاصة بالنساء، والتي تقتصر حاليا على صالونات التجميل والحلاقة ومراكز الاستحمام بينما تزدحم الشوارع بمقاهي الرجال.
وفي المغرب أثار مشروع مقهى خاص بالنساء، يدعى “فلاورس كوفي” في مدينة تطوان، يخصص قدرا مهما من الخصوصية والحرية لرواده من النساء، عبر خدمات متنوعة، بفضاءات للطبخ والموسيقى وجلسات “الكاريوكي” في عطل نهاية الأسبوع، إلى جانب فضاء خصص لمشروع مكتبة، جدلا واسعا.
ونقلت مواقع إلكترونية مغربية عن ثريا البراج رئيسة “جمعية المرأة المناضلة” قولها إن فكرة المقهى “تدخل في إطار الحريات الفردية والحق في الاختلاف”، وزادت “غير أن الديكور الذي اعتمد في المقهى والألوان المختارة يعيدان في الحقيقة تكريس الصورة النمطية للنساء”، معربة عن أملها في أن يكون فعلا “فضاء لتبادل النقاشات والأفكار والتجارب الداعمة للنساء”.
في المقابل أبدت الناشطة الحقوقية نصيرة الخمليشي تحفظها على فكرة مقهى نسائي خاص، بمبرر أنها “قد تفتح الباب أمام الفكر الداعي إلى عزل النساء عن الرجال في الفضاءات العامة، ما يجعل النساء الرافضات للانعزال عرضة للاتهام بالتفسخ الخلقي”.
وفي سياق متصل، اتجهت سهام، وهي طالبة جامعية، إلى الاعتقاد أن “هذا النوع من المقاهي يكرس ثقافة البذخ والترف، تحت مسميات متجذرة، فيما أصحابها لا يستحضرون غير الجانب الربحي”، وفق تعبيرها.
وفي دمشق، نشر إعلان على صفحات فيسبوك معلنا افتتاح أول مقهى مخصص “للجنس اللطيف”، ليثير عاصفة من التعليقات التي رأى بعض أصحابها أنها فكرة غير مجدية في بلد فقد الكثير من شبابه بسبب الحرب.
وسبقت مدن سورية أخرى دمشق وافتتحت مقاهي نسائية بالكامل، لتكون الأولى من نوعها في البلاد التي تعيش حربا دامية، ما جعل نسبة النساء فيها تزيد عن الستين في المئة، مقارنة بحوالي 49 في المئة عام 2010، وفق إحصائيات سورية.
وفي محافظة أربيل عاصمة إقليم كردستان افتتحت سيدة عراقية تدعى تارا محمد إحسان (23 عاما) مطعما خصصته للنساء فقط، بهدف منح المرأة مساحة من الخصوصية في مجتمع محافظ لم يألف مشاركة الإناث في المقاهي والمطاعم بشكل منفرد.
وقال تارا “إذا أرادت المرأة قضاء وقت خارج المنزل لا يكون الأمر مريحا لها، لأن الجميع يحدقون بها، لذلك كنت دائما أفكر في فعل شيء مثل هذا لنفسي ولبقية الفتيات لكي نشعر بالراحة”.
ويحمل المطعم اسم “لاكشري وجميع العاملات به من النساء.
ويصف البعض هذا النوع من الأماكن المخصصة للنساء بأنه يقوض مبدأ المساواة بين الأفراد، إلا أن آخرين يرون أنه منطقة للتنفس تسمح بالكلام غير المقيد، خاصة بالنسبة للنساء، وهو مساحة تطمئن فيها ضحايا التمييز والعنف، وضرورة ذاتية لمزيد من الحرية.
ويقول علي صاحب مقهى مختلط في المنطقة السياحية في الحمامات التونسية “هل إقصاء الرجال لا يزال ضروريا اليوم لتمكين المرأة من حقوقها؟”. ويضيف “عدم ثقة النساء في جنس الرجال يحزنني.. عزل الجنسين في الأماكن العامة يشبه القول إن جميع الرجال يحتمل أن يكونوا معتدين. وهذا أمر لا يطاق. إنها ليست الصورة التي أريد أن تتكون لدى ابنتي”.