إنه الزمن.. تأمل المدن اللاّمرئية في اللوحات… فايروس كورونا المستجدّ حوّل كل واحد منا إلى ديوجين* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
رجّت حالة الحجر الصحي وفرض التباعد الاجتماعي الإنسان المعاصر في كل أنحاء المعمورة، وخاصة المبدعين والفنانين، الذين حاولوا على غرار المفكرين مواكبة الأحداث المتسارعة كل من منصته، لرصدها وتفكيكها وتقديمها في قوالب مختلفة للناس. الجميع مشتركون في الواقع، الفنانون وجماهيرهم، وهذا ما يجعل من المقاربات الفنية أمرا بالغ الدقة والصعوبة، وإن نجح فيه البعض فقد أخفق آخرون، وإن تنبأ به بعض الفنانين سابقا فإن آخرين فكروا في ما بعده.
أن تتأمل في لوحة الفنان التشكيلي الروسي، المولود سنة 1948 والمشهور بلوحاته الفانتازية فاسيلي فلاديميروفيتش شلزهنكو، التي يصور فيها الفيلسوف اليوناني ديوجين بطريقة مبتكرة، يعني أن تتأمل في أحوال وجودية متعددة تتصل في ما بينها وتطفو على سطحها أشكال من مدن لا مرئية يعتريها الضباب وتشبه مدن الروائي أوتيلو كالفينو في أكثر من ناحية.
أن تتأمل في لوحة “ديوجين” الرائعة بتفاصيلها وجوها الساحر يعني أن تتمعن في حال إنسان اليوم الذي تقوقع إلى داخل هيئة منزله الهزيل مهما كان فخما وواسعا، ليحتمي شهورا متواصلة وعلى مضض من وباء اجتاح مدينته لينهاها عنه.مدينة تخلت عن “مدنيتها” لخلوها من الجنس البشري لتصبح لا مرئية لهشاشتها ومخضبة بالخيالات والظلال ومسكونة بأشباح كل من وما تحرك فيها من أشياء وبشر مترفين باتوا يعتبرون أنفسهم، منذ سنين عديدة، أنصاف آلهة خلافا للمفكر ديوجين الذي اتخذ من جرة كبيرة منزلا له هربا من تفاهة الرفاهية وعقم القوانين وزيفها.
في لوحة الفنان الروسي بوسع النظر أن يغوص اليوم في ملامح وجه ديوجين المُعبرة عن شبكة من المشاعر والأفكار المتخالطة حد استحالة وصفها ببضعة أسطر، لأنها تفتقر تماما حالها حال مدن “الوباء” العالمية، إلى مرئيتها المباشرة بعد أن غادرها البشر وحلت بها كل أنواع الكوابيس الضبابية لاسيما المشككة بواقعية الحياة على الأرض.
من المعلوم أن لوحة الفنان ترمز في تفاصيلها الدرامية المشبعة بألوان وأجواء داكنة إلى آثار الحرب العالمية الثانية على الإنسان الروسي بشكل خاص والبشرية جمعاء بشكل عام.
لوحة “ديوجين” ليست باستثناء بل هي أحد أهم أعماله التشكيلية الأكثر تعبيرا عن أزمة وجودية حادة بداية بتعابير وجهه التي يحار النظر إليها إن كانت تعبيرا عن الألم أو عن استراحة محارب همجي، أو عن الخوف من العزلة أو عن فرح مكبوت بها ومتمثل بابتسامة مقلقة عَلُقت على طرف شفتيه وتناقضت تناقضا سافرا مع وضعية ذراعيه التي تحتضن جسده خوفا من برد أو عدوان مجهول المصدر.
كل ما في “ديوجين” الفنان، وجهه وشكل جسده المنكفئ في برميل مهترئ، انتهى من مهمة حمله للذخيرة الحربية، يأخذنا إلى المدينة التي تمتد في أفق خلفية اللوحة. مدينة “سرابية” اجتهد فيها الواقع على سفك دماء الخيال ولم ينجح.
هذه المدينة المبتعدة كما السراب تأخذنا إلى المئات من الصور الفوتوغرافية التي أخذت لشوارع مختلفة في العالم أثناء فترة انتشار الوباء وفرض الحجر الصحي ومنع التجول. شوارع بدت في العديد من هذه الصور وكأنها لوحات تميل إلى الواقعية السحرية لشدة غرابتها واغترابها عن ذاتها.
وبدت في صور أخرى تذكر بلوحات الفنان الإيطالي جورجيو دي شيريكو الميتافيزيقية المصقولة بـ”نظافة” مفرطة وبرودة رخامية منفرة، على الرغم من الألوان التي صقلت أشكال عناصرها مانحة إياها زيفا مزعجا ومثيرا للقلق. وبدت في لوحات أخرى تذكر بأجواء لوحات الفنان الأميركي الشهير إدوارد هوبر.
ساحات وشوارع كانت تختنق بالحركة باتت خالية من البشر ومن أي حركة تشي باستمرار الحياة عليها صاخبة ومتنكرة للكائنات الطبيعية. كائنات وجدت الطريق إليها شيئا فشيئا بداية بنمو الأعشاب في تشققات أسفلت الشوارع وتفتح الأزهار البرية من بين المباني وتجول الحيوانات التي وصلت إليها من أحراش أو مروج قريبة. ومن أجمل الصور الفوتوغرافية عن عودة الحياة إلى تلك المدن تلك التي التقطت عن الدلافين في عودتها إلى قنوات مدينة فينيس الإيطالية بعد غياب دام أكثر من مئة عام وصور عن قطيع من الخراف جابت في شوارع إحدى المناطق المجاورة للندن البريطانية.
سرعان ما بدأ فنانو العالم، تماما كما ديوجين يتجولون بقناديل وعيهم وخيالهم وأبصارهم في تلك المدن المهجورة وفي وضح النهار ليس فقط بحثا عن أثر الإنسان المعاصر/ التعيس الذي كبلته متطلبات عصره وإيقاع عيشه السريع، والذي هوى مؤخرا خائفا أو مصابا تحت ضربات عدو غير مرئي هو الفايروس القاتل، ولكن أيضا رغبة منهم في التقاط “أطياف” المباني التي بدت وكأنها مهجورة من ناسها رغم تواجدهم فيها، وتلك التي رشح عنها مقدار من الكآبة أو السأم العميق كشف عن أحوال ساكنيها.
ونذكر هنا لوحة للفنان التشكيلي العراقي زياد جسام. فعلى الرغم من مباشرتها، إذ تظهر المنازل “مرتدية” أقنعة طبية، فهي قادرة مجازيا على التعبير عن أحوال ساكنيها النفسية.
رسمها الفنان مرتفعة بعض الشيء عن أرض صحراوية ومتدثرة كليا بلون الرمال. أبوابها وشرفاتها ونوافذها محكمة الإغلاق. هي منازل منغلقة على ذاتها تنتمي إلى مدينة من عالم اتشح باللا مرئية الأكثر حضورا من الواقع.
وتأخذنا العديد من الصور الفوتوغرافية والأعمال الفنية التي صورت المدن في حالات الحجر الأخيرة إلى أجواء رواية أوتيلو كالفينو واسمها “مدن لا مرئية“.
رواية هي مزج ما بين الشرق والغرب وما بين الخيال والواقع عن مدن تخفق بقصصها وأحوالها الوجودية العامرة بالسحر، وبحزن إنساني عميق نتصل به اليوم على خلفية ما عاشه العالم، وقد يعيشه مجددا في بداية فصل الخريف كما يتوقع العديد من العلماء.
وإذا كان الفنان زياد جاسم صور منازل تقبع كليا في الجانب الكئيب من تلك المدن، التي باتت لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر غير مرئية لأهلها، وهم، أي أهلها، قد كانوا منذ أيام معدودة قبيل انتشار الوباء ساكنيها العميقين والمنتشرين في أرجائها، فإن الفنان التشكيلي المصري محمد الجنوبي سبق له في سنة 2019 أن قدم معرضا فنيا حاول من خلاله مقاربة بصرية/ فنية لرواية “المدن اللا مرئية” انحازت إلى صالح الطمأنينة والهدوء المرجو الناتج عن التآلف والتوازن ما بين الطبيعة والبنى الإسمنتية.
مدينة محمد الجنوبي الخيالية الملونة بتدرجات الدفء بالرغم من كونها خالية من أي بشري، وتنتصر فيها الطبيعة على الإنسان وجشعه.
التباعد ليس سيئا غير أن مدننا العالمية/ اللا مرئية/ ما بعد الكورونية ليست بمأساوية لوحة زياد جاسم ولا بتلاوين محمد الجنوبي الدافئة. أما التباعد الاجتماعي الذي فُرض على كل أهل الكوكب فربما هو أيضا ليس بهذا السوء الموصوف، وجاء ليباعد ما بين بشر بدأوا يعتادون على أذية بعضهم بعضا وعلى تجاهل هشاشة أجسادهم أمام متطلبات العصر واجتياح الأوبئة.
مدننا المعاصرة والفتاكة بأهلها وارتفاعها الحاجب لزرقة السماء صيفا ولتلبدها بروعة الغيوم وكآبة مصارف المصانع الدخانية/ السخامية شتاء، هي مزيج من حالتين: حالة رضوخ كئيب للمعاصرة التي سلبت من إنسانية البشر الشيء الكثير، وحالة احتفاء بضبابية عالم هو أقل أهمية من العالم الافتراضي الذي شكل في هذه المرحلة المفصلية من حية البشرية بداية فعلية لعالم بديل.
يقول كالفينو عن هذه المدن التي “لا تخبرنا بماضيها إنما سنلمحه في تفاصيلها الصغيرة التي تحتويها”، “إنّ جحيم الأحياء ليس شيئا سيكون، وإذا وجد جحيم فهو ذلك الموجود هنا الآن، الجحيم حيث نعيش كلّ يوم والذي نكوّنه حين نكون معا”، ويقول في صفحات أخرى من الرواية، “هي مدن ظاهرها رموز، مدن خفية لا ترى، والغريب فيها أنها تفتقر إلى الصلابة، إلى المادة في تكوينها، هي مدن أشكال وأصوات وحركات، مدن تشعر بوجودها ولا تراها، مدن تُستحضر في الأذهان، مدن تعج بهمس المقابر والوشوشة”.