هل تبحث تركيا عن نفوذ في لبنان على غرار إيران؟
بقلم: سوسن مهنا
في بلد يعاني أزمات متلاحقة وانقسامات سياسية أطاحت ما تبقّى من أمل في سلطة حاكمة فاسدة، وإقليم تحتدم به الصراعات السُّنية – الشيعية من اليمن إلى سوريا، ووسط هذا الجو المشحون، تأتي تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، لدى زيارته بيروت، عن اعتزام بلاده منح جنسيتها للمواطنين الذين يعتبرون أتراكاً أو تركماناً، لتثير تساؤلات عدة حول النيات التركية لهذا البلد.
وتعلق أوساط متابعة الزيارة، التي أتت بعد الانفجار، “أن تركيا قد تكون اختارت الاستفادة من الغليان في لبنان بين حزب الله وخصومه، في محاولة لزعزعة الاستقرار الأمني، وخلق جيوب إثنية من التركمان، كما في الشمال السوري والعراقي”.
أموال لتعنيف وتقوية الحراك الشعبي
في هذا السياق، يؤكد وزير الداخلية والبلديات في الحكومة المستقيلة محمد فهمي، في حديث صحافي، “أن هناك تدخلاً خارجيّاً بالتأكيد، إذ قدمت طائرة خاصة من تركيا، وأوقف أربعة أشخاص كانوا على متنها من الجنسيتين التركية والسورية، ينقلون أربعة ملايين دولار، وقد دخلوا على أساس أن لديهم شركة صيرفة”.
ويتابع، “لا ندري، هل هذه الأموال هي للتهريب والتلاعب بالدولار أم لتغذية تحرّكات عنفية معينة في الشارع؟ والسؤال: ماذا أتى بهؤلاء إلى لبنان وهم يحملون هذه الأموال؟”.
كما تصبّ تصريحات وزير الخارجية السابق جبران باسيل في التوجه ذاته، إذ عبّر عن تخوفه من “أن هناك تمدداً تركيّاً سياسيّاً وماليّاً وأمنيّاً”، مضيفاً “نحن نريد مساعدات للبنان في محنته لا افتعال فتن”.
وكانت الخارجية التركية قد ردّت على هذا على لسان المتحدث باسمها حامي آقصوي، “أن مزاعم دعم تركيا الاحتجاجات التي يشهدها الشمال اللبناني، ورغبتها في زيادة مساحة نفوذها بتلك المنطقة، عارية تماماً من الصحة”.
التركمان في لبنان
ﻫﻢ ﺃﺗﺮﺍﻙ ﻣﻨﺴﻴﻮﻥ ﻓﻲ ﻋﻜﺎﺭ (شمالي لبنان) ﻣﻨﺬ 400 سنة، وتعتبر بعض البحوث التاريخية أن المماليك الذين تألَّف جيشهم من عناصر تركمانية، الذين حكموا لبنان خلال القرن الثاني عشر الميلادي عمدوا إلى توطين عائلات تركمانية في مواقع استراتيجية لأهداف عسكرية.
ولا يشكّل التركمان في لبنان أكثر من واحد في المئة من سكّانه، إذ يقدّرون بأعداد تتراوح بين 30 و40 ألف نسمة، من أصل ستة ملايين نسمة تقريباً.
وفي تقرير استقصائي صدر عام 2010 عن التركمان اللبنانيين أصدره مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية التركي، بعنوان “الأتراك المنسيون، الوجود التركي في لبنان”، شرح توزيعهم الديموغرافي في لبنان، إذ يتوزّعون ما بين عكار في الشمال اللبناني، تحديداً في قريتي الكواشرة وعيدمون، وكذلك تركمان بعلبك الموجودون في تجمّعات سكانية في وادي البقاع وفي قرية محاذية للحدود السورية في الهرمل، وتركمان الضنية الذين يقطنون قريتين في القضاء، وأتراك كريت الذين يسكنون طرابلس، إضافة إلى الماردينيين وتركمان سوريا الذين “استوطنوا” مناطق تركمانية في بعلبك وعكار بعد الحرب السورية، والشركس.
الجمعيات التركية في لبنان
تنشط “وكالة التنمية التركية”، والمراكز الثقافية التركية على الأراضي اللبنانية، إضافة إلى ما يمكن تسميته بالغزو الثقافي المتمثل في الأعمال الدرامية التي تزدهر على الشاشات اللبنانية.
وشكّل هذا الدور كثيراً من الاعتراضات، نظراً إلى وجود الأرمن في لبنان، والعداء التاريخي مع الدولة العثمانية، إضافة إلى الجمعيات الأهلية اللبنانية التي تجاوز عددها 22 ألف جمعية مسجلة لدى وزارة الداخلية، وهذا ما يطرح تساؤلات عدة عن دور تلك الجمعيات، ومن أين تأتي بتمويلها؟
تفيد مصادر أمنية بأن تركيا خصصت وعبر سفارتها في بيروت ميزانية كبيرة لـ”تجمّع الجمعيات اللبنانية التركية”. جزء نقدي لتغطية مصاريف مراكز ونشاطات ورواتب المتفرّغين في هذه الجمعيات، وآخر مخصص لمنح جامعية تقدّم لأبناء القرى العكارية التركمانية، وتغطي هذه المنح تكاليف الدراسة والإقامة وتأمين مصروف شهري للطالب في تركيا.
وفي إعلان لافت ومنذ عام 2015 للجمعية اللبنانية التركية على صفحتها على “فيسبوك” تدعو إخوانها في طرابلس ولبنان “أنها قد بدأت توزيع عشرة آلاف علم تركي”.
في المقابل، ينفي رئيس الجمعية اللبنانية التركية أحمد تركماني حقيقة ما تورده المعلومات، ويقول “إنهم لا يتلقون المساعدات إلا عبر البلدية، أو جمعيات خيرية. وأهداف الجمعية اجتماعية وثقافية بحتة، هدفها تجميع العائلات، وأن ما يرد عبر الإعلام من تلقينا مساعدات من الدولة التركية إشاعات مغرضة وكاذبة”.
ويرحّب، في حديث إلى “اندبندنت عربية”، بطرح جاويش أوغلو بإعطائهم الجنسية التركية، مشيراً إلى “أنهم متشوقون لاستعادة الجنسية، وأن هذه الدعوة التي أتت على لسان الرئيس أردوغان، تأتي كباب لهم في ظل الأوضاع المزرية في لبنان، الاقتصادية والسياسية”.
ولدى سؤاله عمّا إذا كانوا مستعدين للتخلي عن الجنسية اللبنانية، والعودة إلى تركيا مقابل حصولهم على جنسيتها، وما إذا تواصلت السفارة معهم؟ يوضح تركماني “هذه التفاصيل غير معروفة لديهم حتى الآن، ولم يتم التواصل مع المعنيين”.
ويضم “تجمع الجمعيات التركية اللبنانية”، الجمعيات التالية: الجمعية الثقافية اللبنانية التركية في عيدمون تأسست عام 2010، والتركمانية اللبنانية تأسست 2012، ويرأسها أحمد التركماني، وتقدّم الرعاية والمساعدات العينية لما يقارب 25 ألف نسمة في قرى عكار ومدينة طرابلس، والأخوة اللبنانية التركية، وإنماء حوارة التركمانية، ودورس الخيرية الاجتماعية في بعلبك، وأيضاً جمعية الصداقة اللبنانية التركية طرابلس الحريشة، ومركزها طرابلس تأسست عام 2008، ويرأسها خالد تدمري، ويتركّز عملها مع مؤسسة “تيكا” (وكالة التعاون والتنسيق التركية). ﻭﺗﺪﻓّﻘﺖ ﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺪﺍﺕ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﻛﻤﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻣﻨﺬ ﺍﻛﺘﺸﺎﻑ ﻭﺟﻮﺩﻫﻢ عام 1989.
يذكر أن المساعدات لمؤسسة “تيكا” (الرئيس السابق لهذه الوكالة هو رئيس الاستخبارات التركيّة هاكان فيدان)، أصبحت تشكّل جزءاً من مصدر عيش عائلات لبنانية فقيرة في الشمال اللبناني، إلى جانب مئات الطلاب الطرابلسيين الذين يتلقون منحاً في الجامعات التركية، إضافة إلى افتتاح الخط البحري المباشر بين طرابلس ومرسين في نهاية عام 2010.
من هنا تأتي الأسئلة، ما المصالح التركية المباشرة وغير المباشرة في لبنان؟ ولماذا تذكّرت التركمان الآن؟ وما الوسائل التي تتغلغل عبرها في الشمال اللبناني، مال، وسلاح، وطائفية، وأي أهداف للسياسة الخارجية التركية في هذا البلد؟ وهل السبب في هذا التسلل، غياب المشروع العربي أو إعادة إحياء الحلم العثماني؟
إعادة إحياء الحلم العثماني
تقول الباحثة السياسية المتخصصة في الشؤون الإقليمية والتركية هدى رزق، عن إعادة إحياء الحلم العثماني “تركيا ومنذ التسعينيات كانت تحاول الانتشار في أفريقيا من أجل مصالحها، وحجتها كالعادة المسألة الثقافية، والمساعدات العسكرية والتنموية. وأتى تدخلها في سوريا بداية سياسيّاً، عبر طلبها من الرئيس السوري إدخال بعض العناصر من الإخوان المسلمين إلى السلطة، ومن ثمّ عبر التدخل العسكري، إذ أسهمت بالتمويل بشكل كبير. لكن كان هناك أيضاً تدخل من قِبل حزب الله وإيران، والقوى الإسلامية الموجودة في بيروت وشمالي لبنان، منها الجماعة الإسلامية، وهذه القوى قريبة من حزب العدالة والتنمية منذ بداية توليه الحكم، وتوطدت العلاقة بينهما بعد الحرب السورية، لتصبح سياسية وعسكرية”.
وعن شكل التغلغل التركي تشرح رزق، “تركيا تدخل عبر سياستها الناعمة، ولم تطرح نفسها إلا عبر الصعيدين الثقافي والسياسي بداية، لكن بدأت تتوسّع عبر الجماعات والقوى الإسلامية الموجودة منذ 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خصوصاً بعد حادثة الباخرة (مرمرة) وحرب غزة، أخذ حضورها يكتسب طابعاً أقوى، ليس إسلامياً بل طابع سياسيّ، وبدأت تتعامل مع نفسها كحامٍ للمقاومة الفلسطينية، لا سيما بعد علاقتها مع حماس، ما انعكس على لبنان، بسبب وجود حزب الله الذي يقول إنه مع القضية الفلسطينية، وشعاره تحرير فلسطين والعداء لإسرائيل. وعلى الرغم من أن تركيا لديها علاقات مع إسرائيل عسكرية وسياسية، فإنها بدأت نسج علاقات سياسية مع الفلسطينيين، لأنها لا تستطيع التوسّع في المنطقة من دون أن تحمل القضية الفلسطينية كمبدأ لها”.
وعن غياب المشروع العربي تشير الباحثة السياسية المتخصصة في الشؤون الإقليمية والتركية إلى أن أنقرة تطرح نفسها مناصرة للإسلام السياسي بالمنطقة، ومنطقة الشمال تعتبر الخزان السُّني للقيادات السياسية السُّنية، لذا أسست لوجودها هناك، إضافة إلى أن بعض أبناء البقاع يعتبرون أن تركيا مناضلة وتدعم القضية الفلسطينية، وفي ظل وجود تخلٍ عربي من دول كانت تعتبر مرجعية سنية للبنانيين، بسبب انشغالها بمشكلاتها الداخلية، ما ترك فراغاً، تحاول تركيا تعبئته، وتعتبر أن لإيران نفوذاً في لبنان عبر حزب الله، لذا تريد أن يكون لها موطئ قدم عبر السُّنة في لبنان.
غياب التحقيقات القضائية لجلاء الصورة
من جهة ثانية، يقول الكاتب الصحافي أحمد الأيوبي، “من الصعوبة بمكان ما إثبات قيام أجهزة تركية بنشاط أمني وتوزيع أسلحة في الشمال، تحديداً عكار، لأنه لم تخرج معلومات موثقة من الأجهزة الأمنية الرسمية، ولم يستطع الإعلام توثيق شيء من هذا القبيل، والإشكالية في الحديث عن (التغلغل) التركي اتخذ طابعاً إعلاميّاً وسياسيّاً، بل دخل في معمعة الصخب والنزاع السياسي، كما حصل عندما اتهم النائب جبران باسيل قادة أجهزة أمنية لبنانية بتسهيل النشاط التركي بطابعيه السياسي والأمني، من دون أن يتخذ القضاء أو الأمن أي إجراءات لجلاء الصورة وكشف الحقيقة حول كلّ هذه الأحاديث المتداولة في الأوساط الإعلامية والسياسية”.
وعن المصالح التركية في لبنان يشير الأيوبي إلى أن “اهتمام السلطات التركية بالتركمان ليس مستجداً، بل بدأ منذ سنوات”، ويذكر الزيارة التي قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى عكار عام 2010 وإلى القرى التركمانية، وافتتاحه مشروعات تنموية كبيرة هناك، وبعدها لم يتوقف الدعم التركي للتركمان، ليس في عكار فقط، بل في جميع المناطق اللبنانية.
ويعتبر أن لبنان وفي ظل الصفقات والتسويات هو مساحة للصراع، وكل طرف يسعى لتحقيق مصالحه، بينما اللبنانيون منقسمون ومتصارعون، وبلدهم بات في مطبخ اقتسام الحصص الدولية والإقليمية.
ويضيف الأيوبي، “بسبب تراجع الانتماء الوطني باتت التركيبة اللبنانية قابلة للولاء الخارجي أكثر من أي وقت مضى، وهذا أمر تستغله تركيا وغيرها من الدول، وبالفعل أصبح للأتراك اليوم كتلة وازنة من اللبنانيين توالي سياساتهم، وتعكس مصالحهم، وهي حتى الآن لم تتخذ شكل عمل سياسي منظّم، ولم تظهر عليها بوادر أمنية، لكن في ضوء التطورات المتوقعة، سيكون هناك حزب سياسي لبناني مؤيد تركيا، وإذا انزلق الوضع اللبناني إلى حالات الصدام المسلح، لا يمكن استبعاد انخراط هذه الكتلة فيه. لكن هذا يبقى في إطار التوقعات”.
الصراع على النفط والغاز
وعن أهداف السياسة الخارجية التركية يقول الصحافي اللبناني الأيوبي، “في ضوء انفجار صراع المصالح على النفط والغاز في البحر المتوسط بات لبنان نقطة تجاذب إقليمي ودولي، كما نرى الآن تماماً، ولا شكّ في أن تركيا ستسعى لأن يكون لها موقعها في التركيبة المستقبلية للمنطقة مع توزيع مناطق النفوذ، وهي استطاعت أن تصبح من الجالسين على طاولة التفاوض، بينما تحوّل لبنان، بفضل حكّامه إلى قطعة جُبن يجري اقتسامها، بدل أن يكون وطناً يحافظ على ثرواته التي جعلته دولة نفطية، لكنها بسبب الفساد مفلسة ومدمّرة”.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”