فكرة رعاية الهامش الإجتماعي أدبيًا، فيما يسمي “أدب المهمشين”، انتشرت بقوة في الآونة الأخيرة
النشرة الدولية –
انتشرت بقوة في الآونة الأخيرة فكرة رعاية الهامش الإجتماعي أدبيًا، فيما يسمي “أدب المهمشين”، فقد اتفق نقاد على أن الإهتمام بالمهمشين والمحرومين والمظلومين أصبح ظاهرة أدبية عالمية، بحيث أصبح هذا اللون من الكتابة كنزًا كبيرًا للكتابة الأدبية بعامة والسردية بخاصة، لأنه بطبيعته عالم يصخب بالمشاعر الإنسانية، والأحاسيس المركبة العاصفة التي قد يندر وجودها في عوالم أخرى تصلح للكتابة، حيث التفاصيل وثراء الحياة. وسادت عبارة مشهورة فى النقد تصف هذا الاهتمام بجعل الهامش الاجتماعى واقعيًا متنًا إبداعيًا.
ولا شك أن أجواء التنمر الإجتماعي وأخلاق الزحام وظاهرة “ضيق التنفس الاجتماعي” وأخلاق الرجال الضيقة، واتجاه الإنسانية للتنميط والآلية، وتقسيم الناس إلى فئات تسحق بعضها بعضًا، وشحوب التعاطف الإنساني، والتنكيل بالضعفاء المطحونين؛ تعد من المجالات الخصبة في ميدان الكتابة الأدبية، حيث هناك من يمتلك ناصية الحياة ومواردها، ويحرم منه الآخرين، ويستعبدهم لمصالحه ورغباته.
العجيب والأخطر أن هذا الهامش لا يكفي أنه يحيا حياة معدمة قاسية، بل أصبح مهددًا في وجوده ذاته، فحتى القاع الذي يسكنه أصبح مهددَا بالإزالة من الوجود، يقول الروائي هاني عبدالمريد: “قبل الثورة كان يشغلنا الوضع السياسي والإجتماعي المتردي وكانت هناك موجة من الإهتمام بالكتابة عن الهامش، أو ما يطلق عليها واقعية القاع .. الآن اختلف الأمر، تأكد تخلفنا عن العالم، صارت هناك موجة من اليأس تقول إنك مهما فعلت فإن مكانك هنا في القاع، وأن حتى هذا القاع صار مهددًا وأنت ترى كل يوم مدنًا ذات حضارة إنسانية كبيرة تنهار وتُزال من على وجه الأرض؛ العشرات من المدن بسوريا والعراق واليمن، بآثارها وحضارتها، صارت مجرد أكوام من التراب”.
ويستعرض خصائص كل نوع منهما وارتباطهما ببعضهما البعض، يقول (بتصرف): “هذا الهامش كما هو معلوم أسفل الصفحة وبخط أصغر من خط المتن، حتي يتسني للعين القارئة أن تركز عدستها الرائية علي المتن أكثر .. هكذا الحياة وما فيها من بشر تنقسم إلى أناس يعيشون في دائرة الضوء ينعمون بالاستقرار والنعيم والراحة، وإلى جوارهم في الصفحة نفسها مجموعة أخرى تم إقصاؤها ليسكنوا في منطقة الهامش، لا ينظر إليهم ولا يعبأ بهم كثيرًا”.
ويتابع في تصوره الطريف الموجع في تفسير هذه الملحمة المأساوية، وهذا الإقصاء والتوحش، يقول: “ولعل السر في هذا الحال السلبي يعود – بدرجة كبيرة – إلي هذا الخط السميك الذي يفصل بين المنطقتين داخل الصفحة .. إنه خط مأساوي شديد القسوة يكتم صوت الصرخات ونداءات الاستغاثة الصادرة عن هؤلاء المهمشين ويحجب رؤيتهم”.
الاستبصار تحت الخط الخشن:
والهامش تتقزم أحلامه وتتلاشي – إذا وجدت له أحلام في الأساس – لهذا أتي التحديث في الأدب المعاصر بفكرة “أدب المهمشين”، وهو في حقيقته رؤية مغايرة تعمل إلى التحقيق الفنى لهذا الهامش المطحون، بجعله المتن الإبداعي ذاته، وتوجيه الضوء إلي هذه الطبقة المسجونة تحت الخط الغليظ أسفل الصفحة، فالفن يعمل على تحريك هذا الخط الفاصل، وتكسيره أو على ألأقل جعله شفافًا، ليرى القراء المحجوب تحته.
ومن رحاب الحراك في صفحة الحياة، أن بعضًا من سكان الهامش قد يتسربون للمتن، كنبات كريم، يجتهد ليؤسس ذاته، ويحقق معنى تنمية الحياة، فتسعى النخبة المغرورة إلى سحق هؤلاء المتسللين، وإعادتهم مرة أخرى للهامش دون الخط الثقيل، من خلال فعل سلبي يحمل رسالة مضمرة تقول لا تنسوا أنكم متسربون وأن دوركم فقط يقتصر أن تكونوا جمهورًا للمتن يسبح بمزاياه لا أكثر، فلستم بشعب يعتد به في أي سياق للتاريخ أو الصفحة. ونأتي لتطبيقات أخرى حول المفهوم.
“الحاشية” أكرم عنصرًا:
إن الفكر العربي في التأليف في العهد الزاهر ساوى بين المتن وما يستتبعه بطريقة “قول على قول”، أو مفهوم آراه في المجايلة البناءة، بمعنى أن يبني اللاحق علي النتائج المحققة بواسطة الجيل السابق له، بنفي فكرة الجيل يتيم الأساتذة، فكانت الحاشية على المتن، وتحققت المساواة بين “المتن” الذي مثل الأصل المقدر، وموضع المراجعة والتفسير، وبين “حاشية” تأخذ المتن لرحاب تثمير جديد.
التنوع الثقافى دواء لداء التعددية المريضة:
وفي تطبيق آخر نجد تحرير مفهومي: “التعددية الثقافية” و”التنوع الثقافي”، فصفحة الحياة تشمل مجتمعات متباينة لها سماتها وحياتها الخاصة، وهذه التعددية الثقافية في صورتها الخام ضارة بالمجتمع وتؤدي لتفكيكه ومحو مقومات هويته الخاصة. فهذه التعددية قاصرة في ذاتها إذا لم يتم تطويرها لتحقق التنوع الثقافي، الذى هو فى حقيقته تعددية ثقافية منضبطة بمعايير راشدة تنفي الإقصاء والتهميش، ومن هذه المعايير، نفى العنصرية.
ونستعين في إيضاح الفكرة بنموذج “الشللية الضارة” في شتى مناحي الحياة، أو فكرة “الأقليات المتساندة” التي تعيث في الأرض فسادًا، والتى من خلال تكافلها البغيض تظلم من دونها ولو كانوا أكثر عددا، وتحرمهم من حقهم في الحياة الكريمة.
وهي أقليات لأنها متلاشية متآكلة كقطعة ثلج ذائبة، لا تجتذب أحدا وبلا قيمة، بداية لأنها تستعلي علي الآخر لمجرد أن له رأيًا مختلفًا، وتحاول الطعن بكل السبل في أصالته، والتدنية من شأنه، وتشويهه، وبث ترويج إعلامي يطلق عواصف الغبار والدخان حول منجزه، وتبتكر المبررات الخاصة بها والمخدرة، حتى لا تقف هذه الفئة أمام ذاتها عارية من دعاوي إنصافها للآخر، وقشرة ثقافتها التي تغلف قلب مر وضمير أسود.
الوسيط الإلكترونى يحطم الخط الفاصل:
وتطبيق آخر حول أن الوسائط التكنولوجية الحديثة كسرت الخط الغليظ الفاصل بين المتن الثقافي المستعلي والمهيمن علي منابر المعرفة والنشر والإعلام، وأحالت مدارات الثقافة العامة إلى أماكن للأشباح، وبين هامش ثقافي يحاول أن يبزغ فجره من أسفل الفاصل الغليظ، هذا رغم آفة الوسيط في شأن حفظ الملكية الفكرية، وهل من شيء ليس له آفة؟!، ولكن السكوت أشد من آفة البوح.
“مدن الأسوار” في النص الروائي المعاصر:
التطبيق الأخير وجدته في رحاب نصوص روائية خاصة في أدب الخيال العلمى والفانتازيا، حيث يتجسد الخط الفاصل الغليظ، ليشكل أسوارًا شديدة الضخامة، وأسلاكًا مكهربة في المستقبل طبقًا لخيال كتاب هذا النوع الأدبي، بحيث أصبح ظاهرة مستقرة، وهى كثيفة نقدم لها أمثلة:
في رواية “يوتوبيا” للروائي أحمد خالد توفيق، يتخيل: “يوتوبيا” .. المستعمرة المنعزلة التي كونها الأثرياء علي الساحل الشمالي ليحموا أنفسهم من بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي صارت تحوي كل شيء يريدونه .. يمكنك أن ترى معالمها .. البوابات العملاقة .. السلك المكهرب”، حيث الأسوار مثلت الخط الغليظ الذى يحول بين فئة مرفهة في المستعمرة، و”الأغيار” الذين يعانون أشد حالات البؤس والسحق، ويتعرضون للقتل الوحشي في رحلات يقوم بها بعض الشباب الملول الباحث عن الإثارة من مواطني يوتوبيا فيما يعرف بعمليات الصيد أو القنص للأبرياء من الأغيار، والعودة بالأشلاء كتذكار للمرح، أو يصيدون واحدًا من الأغيار ويعودون به ليوتوبيا ويعذبونه لأيام طويلة ثم يقتلونه دهسًا بالسيارات الفارهة.
تقدم الرواية في إطار تخييلي المفارقة الحادة بصيغة المبالغة الفنية في الخيال العلمي، لتجسد لنا الخطر الذي يهدد الوجود الإنساني.
أما رواية “مدن السور” للروائية “هاله البدري”، فحازت حكم قيمة بفوزها بجائزة معرض الكتاب الدولي 2018، تتحدث د. عزة مازن عن الرواية قائلة (بتصرف): “… تستخدم الخيال العلمي والفانتازيا لتدين قسوة الواقع، وتحذر من الإفراط في استخدام التكنولوجيا والتقدم العلمي علي حساب آدمية البشر .. وتدور الرواية في زمن مستقبلي حيث انقسم البشر إلى نوعين، فوقيون يتمتعون بكل الإمتيازات ويعيشون في مدن مسوّرة بنوها خلسة في أزمان ماضية على ضفاف القاهرة، وآخرون بدائيون طبيعيون، يحتفظون بالسمات البشرية المعهودة، ولكنهم محرومون من الإمتيازات الفوقية، يستغلهم الفوقيون لتحقيق رفاهيتهم”.