وجهان لبيروت بعد النكبة: مجتمع مدني وقصور تراثية* حمزة عليان
النشرة الدولية –
منذ اليوم الأول من زيارته إلى بيروت فتح الرئيس الفرنسي ماكرون الباب على مصراعيه، حين وعد بإدارة شفافة كي تصل المساعدات إلى الشعب والمنظمات غير الحكومية وجماعات الإغاثة في لبنان وليس للطبقة الحاكمة، ثم كرت السبحة من مختلف البلدان والمؤسسات الدولية التي قررت في هذا الشأن حجب المساعدات عن النظام وأساليبه الفاسدة.
اللافت للنظر في هذا الشأن أن تخطط الدول المانحة للبنان إيصال مساعداتها (300 مليون دولار) عبر المنظمات غير الحكومية بدل تدفقها إلى أجهزة مفككة وفاسدة، حتى بدت المعادلة بشقيها المتناقضين الأول إدانة واضحة لفشل الدولة وللحكم الطائفي من جهة، والثاني ثقة بالمجتمع المدني خارج المنظومة التقليدية والمتهمة بالفساد وسوء الإدارة، استتبع ذلك حالة من الخوف لدخول هذا المرض المستشري بلبنان في ملف إعادة إعمار كارثة المرفأ إذا ما أدى إلى تعطيل العمل الإغاثي ووضع العراقيل أمام إنجازه بالسرعة المطلوبة، فالانفجار في حقيقته أصاب زعماء الطوائف المتوحشين قبل أن تتطاير شظاياه لقتل البشر والحجر!
وبخلاف ما يتصل بثوار (17 تشرين) وقوى التغيير التي نزلت إلى الشارع وما زالت، فالوجه الآخر والمكمل للصورة يبقى منظمات المجتمع المدني التي يعوّل عليها العالم والرأي العام اللبناني والكويتي معاً وباتت تتصدر المشهد بكل تجلياته.
ومنذ اللحظات الأولى لوقوع كارثة الرابع من أغسطس 2020 كانت سواعد الشابات والشباب المتطوعين تغطي شاشات التلفزة، وهم يحملون المكانس وأدوات الترميم، يزيلون الركام من الشوارع.
وفي هذا المشهد كانت “لوياك” في قلب العمل الميداني وهي التي امتلكت الحرفية والكوادر للتعامل مع مختلف الأزمات.
وبالرغم من الخسائر التي أصابت مقرهم في بيروت وما أحدثته الفاجعة من صدمات كحال آلاف المكاتب والبيوت، فإنهم تعاملوا مع الحدث بمنتهى المسؤولية التطوعية، وهذا ما لمسته من السيدة فارعة السقاف التي أعطت دون حدود واستنهضت عزيمة القائمين على مكتب بيروت.
فقد جندت نحو 260 متطوعاً يعملون دون انقطاع طوال النهار، بعد تشكيلهم ثلاث فرق ميدانية توزعت على استقبال ومتابعة الحالات ومساعدة المستشفيات وتقييم وإصلاح الأضرار للبيوت.
نزول هؤلاء المتطوعين تحت شعار حملة “انهضي يا بيروت” جسدت مساهمة إنسانية رائعة حملت اسم الكويت من خلال “لوياك” ورفدتها بالدعم والمؤازرة كواجهة من واجهات المجتمع المدني.
هذا الاسم الذي يزداد صلابة وتجذرا بعد موافقة مجلس الوزراء على تبرع ورثة جاسم المرزوق بقيمة مليون دينار لتأهيل وتطوير مقر المركز بمنطقة القبلة، لتعزيز دوره بتنمية فئة الشباب والاحتفاظ بطابع المبنى التاريخي.
ووسط هذا الدمار الذي تعانيه بيروت الصامدة واستقطابها لمنظمات المجتمع المدني بعيدا عن التبعية والانحياز لهذا الحزب أو تلك الطائفة، أطلت علينا تلك البيوت التراثية في منطقة “الجميزة” والقريبة من انفجار المرفأ وحكاياتها التي لا تنتهي.
إن الانفجار المروع كاد أن يدمر تلك المباني التاريخية والتي تربط ماضي المدينة بمستقبلها، وبحسب تقديرات وزارة الثقافة هناك 460 مبنى تاريخيا أصابها الضرر و60 منها معرض لخطر الانهيار.
من أهم المعالم التي سلطت عليها الأضواء تلك العائدة لأسرة سُرسق وصاحبة المبنى المعروفة بقصر سُرسق، وهذه واحدة من العائلات اليونانية الأرثوذكسية التي وفدت إلى لبنان في القرن الثامن عشر، وهي تنحدر من أسرة تجارية جاءت إلى بلاد الشام بعد الحكم العثماني والسيطرة على القسطنطينية.
عائلة سُرسق أعادت بناء ثروتها من خلال بناء القصور وشراء الأراضي والاستثمارات الصناعية في مصر وفلسطين ولبنان.
كان بروز تلك الطبقة الأرستقراطية التي تزاوجت مع مثيلتها الأوروبية إيذانا بتكونها في الولايات العربية من الإمبراطورية العثمانية وفي ظروف اقتصادية، وفي هذا المقام يرى المستشرق الروسي كوتلوف من خلال كتاب “تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي” أن رأس المال الوطني اتجه إلى مجال التجارة وامتلاك الأراضي، مستشهداً بأسماء عوائل نهضت في تلك الفترة، وهي من كبار ملاك الأراضي، ومنهم التاجر الصيرفي “سُرسق” في بيروت، وامتلاكهم إقطاعيات ضخمة في فلسطين، وعائلة الإبراهيم صاحبة أكبر البيوتات التجارية بالكويت، وتملك أسطولاً كبيراً من السفن الشراعية مع الهند إلى شراء بساتين نخيل واسعة على ضفاف شط العرب.
لا شيء أثمن من تلك المباني التراثية الصامدة في وجه كل الحروب والنكبات سواء قصر بسترس أو قصر سُرسق في حي الأشرفية، فهما يرمزان إلى فصل من تاريخ لبنان وتطوره العمراني، باتا اليوم في عداد المنكوبين، يشبهان في أحد وجوههما ما أصاب لبنان وشعبه بعد الانفجار.