“في غياب الناقد” لمارلين مسعد: التحرُّر من الملامة والخوف
النشرة الدولية –
إذا كانت الكلمة للسحر الخارج من كتاب، وكان الكتاب حصيلة جهود متضافرة لترجمة فكر الكاتب، من تصميم للغلاف وتنقيح وطبع ونشر، فإن النقد هو الذي يفتح باب الشوق، لدخول الإلهام إلى عقل القارئ، من العالم الواقعي المجرّد من كل خطوط الوعي.
كتاب “في غياب الناقد” لمارلين مسعد يُكتب فيه الكثير، كونه من الكتب القليلة جدًا في العقدين الأخيرين، التي وضعت نظمًا مع تعليمات تطبيقية للنقد. يشير الكتاب في الخفاء، إلى أن الكاتبة قرأت مسار الأدب الحديث، الحافل بالهزائم، الماثل في معظم الكتب. وتوقفت مليًا عند أرقٍ ثقافي تسّربت ملامحه إلى عقول الكتّاب الكفوئين وجعلتها متيقظة، وذلك قبل وضعها للكتاب، بحسب ما كتب، يوسف طراد، في جريدة “النهار” اللبنانية
إن معركة الوضوح، التي خاضتها الكاتبة، ومجازفتها البحثية الكبرى، ودعوتها إلى التحرر الشامل من جميع أشكال العبودية الفكرية، جعلت النقد في اطار يستند على ثوابت علمية ورؤية مستقبلية. فهل أن كتابها، سيعاني من وطأة التحديد، المفروض عليه سلفًا من كافّة أساليب تفعيل الأثير والإنترنت، التي عملت على تحويل مسار الكتابة والنقد، إلى مجارٍ مستحدثة، لأهداف ليست خافية على الأقلية المثقّفة، التي تبعت مجاري هذه الوديان بحذر شديد؟.
بعد المقدّمة تكلّمت على النقد والنّاقد المحترف: “على الناقد المحترف قبل كل شيء أن يقيّم العمل الأدبي، بصدق الرؤية وتجلّيها في خطاب نقدي يشد القارئ ويثير فيه الفضول للتعرّف على أدق تفاصيل العمل”. واعتبرت أن الناقد الفعلي: “متواجد- غائب… ففي غياب النّاقد كثرت الأدباء وقلّ الفكر الأدبي”. من ثم تكلّمت على الكتابة: “منها انطلقت كلّ نهضة في العالم وبها تراجعت مستويات الشعوب”. وأسهبت في وضع قواعد غير ملزمة للأسلوب: “سرّ الفن وصعوبته في العملية الكتابية، أن يكون لكّل كاتب أسلوبه المبدع يميزه عن كاتب آخر، لا شك أن للموهبة حصّة كبيرة في الكتابة…”.
أوغلت مارلين مسعد في غياهب “الفكر النقدي”، باِندفاع صاخب نحو الأستغراق في عبثية وجود النقد وجدواه، واضعة نصائح، لا تتعارض مع المضمون الهادف في نص النّاقد، المنبثق من إيقاعٍ فكري بحثي: “الكمال الفكري يعني معايير ثابتة منها: الوضوح، الدّقة، المنطق، والانسجام مع الهدف المنشود”.
النّاقد وصفاته، ومميزات أسلوبه المحترف، الموصوفة في هذا الكتاب الشيّق، تؤدي في حال اتّبعها النّاقد، إلى النّهج المحبّب للقارئ، الذي يجعله يختار مطالعاته بدقّة، ويولد ارتياحًا عند الكاتب المتمكّن: “في النهاية ينبغي أن يضع النّاقد أمامه فكرة: أن الأدب تعاقبٌ منطقي لأعمال تتوالد… وليس رهن السّخط أو التجريح والذّم والغضب…”.
اتجهت الباحثة إلى معاينة الماضي، لصالح شفاء الحاضر واستباق الوهن في المستقبل ضمن فصليّ: (لمحة تاريخية) و(بعض المدارس النقديّة)، واستعملت تشخيص أرسطو وأفلاطون وهرقليطس وشارل سوريل ودانيال غيه وأنطوان آدم وغيرهم، فكان كتابها من ضمن العلاجات العديدة للنقد غير الموزون.
يحسب القارئ المهتم بالنقد نفسه على مقاعد الدراسة، عند قراءة مقطع “بعض المدارس النقدية”، حيث أن هذه المدارس: “الشكليّة الروسية، فقه اللغّة والتّأويل الألماني، المحور الأميركي الإنكليزي، ومدرسة جنيف والنّقد الأدبي الموضوعي (نقض الوجدان والأحاسيس)” قد حققت فلسفة الالتزام بالواقع المنقود، مما يجعل النقد الحديث، يراعي واقع وظروف ومناسبة كلّ كتاب ومرسحية وديوان، وتموضع كلّ كاتب في مجتمعه.
هذه الدراسة هي من الدراسات القليلة في علم النقد، الجادّة حديثًا في تسليط الضوء المنهجي على بعض أنواعه: “النّقد الخيالي، النّقد العفوي، النّقد الصحفي، النّقد الانطباعي، النّقد الفنيّ، والنّقد التكويني الجيني”. عند تمعّن الناقد في أنواع النقد الموصوفة، يحدد مسار نقده، اعتبارًا من الحدقيّة إلى الهدفيّة المرجوة: “لا بدّ للناقد الصحفي الناجح أن يضع أمامه أسئلة ثلاثة: من؟ ماذا؟ لماذا؟”. هذه الأسئلة بدقتها ونتيجتها المضمونة، تذكّرنا بالتدريب العسكري، الذي تلقيناه من خيرة ضباط الجيش في دروس القتال عن الوثبة، حيث يجب على المقاتل طرح الأسئلة التالية على نفسه قبل تنفيذ الوثبة ليحقق نجاحها: “من أين؟ إلى أين؟ كيف؟ ومتى؟” هنا الخطأ قاتل لا محالة، أمّا في المجال النّقدي فالخطأ يَصلُح بالتمرس، بالأخص إذا كان هذا الكتاب منهجيًا.
الإيحائية في هذا الكتاب حول “النّقد الشعري”، تجعل الكاتب والنّاقد على حدّ سواء، في مغامرة الحضور المباشر أمام القارئ، فعليهما كشف التفجّر الحيوي الرمزي للقلق والشوق والضياع والبؤس والضجر والمعاناة في الفكر الانبعاثي الذاتي للكتابة والنقد. كما تجعلهما يرددان بشجية إيقاع الحنين والحلم والحبّ، لمعانقة القمر ولقاء الشمس والحرية. إن هذه المغامرة بحد ذاتها، هي رؤيةٌ واضحة، واندماج حقيقي وصميم بواقع صوفية الشاعر وحلم الكاتب، فقد ورد في مقطع من الكتاب قول ل(بارتس): “كيف بإمكان الناقد أن يوصل صمت إنسان يتكلّم إلى كلمة الإنسان المصغي”.
لم ترتكز مارلين مسعد على مراجع ومدارس عربية في دراستها، ربما لأنها وضعت عبارة: “أفكار جديدة للعالم العربي” على غلاف الكتاب، أو لأنها خرّيجة جامعة بوردو في فرنسا. لكن التمهيد بقلم الأستاذ مروان نجّار الكاتب المسرحي والتلفزيوني، أضاف نوعًا من التوازن في الكتاب في خطوط النقد بين الشرق والغرب، من حيث المدارس المتّبعة. بالإضافة إلى أسلوبه التقني الجميل ومنطقه السليم، وتضمينه التمهيد للقواعد العّامة للفكر الصحيح، فقد ذكر النجّار عدّة نقّاد عرب مشهورين أمثال ابن سلام الجمحي، الأصمعي، ابن جنّي، وعبد القادر الجرجاني الذي ضمّت “رائعتاه الفريدتان (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) آراءه النقدية العميقة الشاملة”.
هذا الكتاب، بوصفه المجرى التقني الفني الكبير، الذي جمع منابع وروافد المدارس النقدية، وجعلها تصّب في حيّز ضيق من حياة النقد، في القرن الحادي والعشرين، الذي سيطرت فيه الهواتف الذكية، وسهولة إيجاد البحث في كلّ المجتمع، ومن خلال ما أدرج فيه من تقنيات مهمة في مجال النقد، وتأثره بالاتجاهات الفلسفية والنقدية الغابرة والمعاصرة، مستقبله أن يؤثر على المسلك العام والخاص للكتابة والنقد، ويجعل النّاقد بعيدًا عن الإساءة إلى البحوث والروايات التي كلّفت كاتبها جهدًا كبيرًا، كما تجعل الكاتب مشمئزًا من وصف الغريزة الجنسية وتوصيفها كأنها الدور الأساسي للتطور البشري، عوضًا من أن ينظر إلى الإنسان بوصفه مجموعة علاقات اجتماعية، وطرق عمل راقية تكوّن شخصيته.
إن النقد الفوري في عصر السرعة، من قبل النّقاد المكتنزين علمًا وثقافة، يجعل الكتابة تتزيّن بالدقة والوضوح والإبداع من أجل التشويق. فسرعة وصول الكتاب إلى القارئ (أون لاين) والتقنية الحديثة السريعة التي تمتلكها دور النشر، جعلتا من الإنتاج الأدبي دفق حبر دون مراقبة ونقد.
كم نحن بعيدون عن النقد الصائب زمن الدكتور مطانيوس مخايل، الذي وضع كتاب “دراسات في الشعر العربي الحديث” في العام 1968 ناقدًا عدّة شعراء بطريقة تقنية جميلة، والدكتور ميشال سليمان الذي ترجم كتاب “دراسات ماركسية في الشعر والرواية” في العام 1974 عن (جورج طومسون) و(فلاديمير دنيبروف). أمّا في التاريخ الحديث، فقلّة من نقد لأجل تحسين أداء الكتًاب والشعراء من أجل مستقبل النقد، نذكر منهم الدكتور جان نعوم طنوس الذي وضع كتاب “بيروت بأقلام الشعراء”، فقد عاين الشعراء: (أدونيس، خليل حاوي، محمد الماغوط، محمد الفيتوري، سميح القاسم، نزار قبّاني، والشاعر القروي) في صراع القمة والهاوية.
أطلقت مارلين مسعد النّاقد في فضاء مغاير لفضاء الأكاديميين الجافّين، وشجعته على كتابة نص أدبي موازي ورديف للنص الأصلي المنقود. لكن مهما كُتب ووضعت تصنيفات وأطر لعلم النقد، فلا يمكن وضع حدود فاصلة ودقيقة لاتجاه النقد الميتافيزيقي والجمالي، وعلى كلّ ناقد مبدع أن يكسر جميع القيود، ويكتب بتجرد مستعينًا بنهج منفتح، كنهج كتاب “في غياب النّاقد” الذي حرر النقد من عبودية الخوف والملامة. ويبقى النقد الحقيقي فوق كلّ تقييم وتحديد وتصنيف.
إذا كان القارئ هو هدف الكاتب، فالنّاقد هو هاجس المؤلف وضميره وجسر للقارئ يعبره إلى الكتاب: “غياب النًاقد كغياب الحاكم وغياب الضمير”.