في فلسطين.. تَقادُم الرسمية السياسية والأحزاب والمثقفين يصنع الهزيمة* د. طلال الشريف
النشرة الدولية –
لنتحدث بالعقل السياسي المحترف، وليس بالعواطف والشعارات والأمنيات، فالسياسة المحترفة، أو الاحترافية السياسية تحتاج أذكياء يتواكبون مع علوم العصر وأدواته وتطور العلاقات بين الدول أو ما يسمى بلغة العصر السياسي، وللأسف ليس لدينا أذكياء في المنظومة السياسية الرسمية، ولا في الأحزاب، ولا في المثقفين.
السياسة المحترفة لا تحتاج إلى هتيفة، وفهلويين، وهروب من المسؤوليات، فالهتاف، والشجب، والإستنكار، والفهلوة، والهروب من المسؤولية، هي صفات المحدثين في العمل السياسي، وهي أدوات قديمة لا يفكر بها الخبراء والمحترفون الآن في عصرنا، ومن يمارسها يفشل بامتياز، فهناك قاعدتان ذهبيتان في السياسة الحديثة، هما المصالح وهي حديثة قديمة، والأثر وهو مستحدث من علم الإدارة الحديث.
العمل السياسي المحترف هو وعي متجدد، وعلم إدارة مستحدث، وحسابات الأثر Impact فيه أكثر من حسابات الفعل Action ورد الفعل Reaction ، ولم تعد السياسة كأيام زمان، خطابات جياشة، وإعتقال معارضين، أو تصفيتهم جسدياً أو سياسياً، لكن السياسة المحترفة تنفي نظريات بائدة، مثل اتركها للزمن والوقت وسوف تحل، فالسياسة اليوم هي مثابرة Sustainability وإدارة وقت، فكل دقيقة لها ثمن سلبي أو إيجابي.
تعالوا نرى جزئية هامة في السياسة الفلسطينية بكل مكوناتها وهذه الجزئية هي “الأثر”.
شرحت في أكثر من مقال سابق على مدى العشر سنوات الماضية، وتحدثت لكثير من قيادات فتح وحماس مباشرة، أن مشكلة فتح في داخلها وأن مشكلة حماس في خارجها، وكم غضب الحمساويون وخونونا وسبونا وشتمونا وحاكمونا حين قلنا بديهية لم تعجبهم، بأن المحيط ودول الجوار وحتى الغرب والشرق ممن يناصبونها العداء ليس بسبب المقاومة، بل بسبب رفضهم للبعد الديني في تنظيمهم كجماعة إخوان مسلمين، وما يشكل ذلك من هاجس تهديد لكثير من أنظمة الدول، والعالم اليوم لا يحبذ وصول المتدينين للحكم، وخاصة في الشرق، وهذا يحتاج شرحًا طويلاً لأن إسرائيل دولة دينية، والعالم أيضا يدعي والتجربة لا تجعل الغالبية لا تحبذ إقامة الدولة الدينية، وضربنا لهم مثلاً شاهدًا على ذلك حركة فتح التي مارست العمل المسلح كأداة نضالية ومقاومة، واعترف بها العالم وبمنظمة التحرير التي تشكل فيها حركة فتح التيار الوطني المركزي، ولم يستطع أحد إتهامها بالإرهاب، بل عملت طوال الوقت بدعم من كل حركات التحرر والأمم المتحدة والجمعية العامة وكل العرب وغالبية الشعب الفلسطيني.
نقول ذلك اليوم مرة أخرى: إن الجزء الأكبر من نفور دول الجوار وباقي العرب وعلى رأسها أنظمة الحكم، من حركة حماس، في أنها جزء من حركة الإخوان المسلمين، وليس نفورهم من مقاومتها الإحتلال الإسرائيلي وكحركة مقاومة للإحتلال، فمقاومة حماس ظلت بعيدة عن التدخل في الشأن الداخلي للدول العربية، ولم تقم بعمليات خارج فلسطين، ولكن لأنها تتبع جماعة الإخوان المسلمين المشتبكة طويلا مع الدول العربية، وتهدد وجود أنظمتها، لم تحظ لا بالدعم السياسي، ولا المعنوي، ولا المادي منهم، إلا قليلا، وبحسابات دقيقة في تعاملهم معها، وإزداد نفورهم بعد الربيع العربي والإشتباك المتواصل بين جماعة الإخوان المسلمين وأنظمة الدول العربية وما نتج عنه من أثر لاتجاه دول لإقامة علاقات مع إسرائيل، وبعد أن شعرت هذه الدول بالخطر من تحالف جماعة الإخوان وتركيا وقطر التي جُمدت عضويتها، وقطعت العلاقات معها من دول مركزية في مجلس التعاون الخليجي، ومصر، بسبب جماعة الإخوان المسلمين، والحقيقة حاول الجميع الفلسطيني وبعض دول المحيط إقناع حماس بالإبتعاد عن جماعة الإخوان، واستجابت حماس ظاهريًا، وهي في الحقيقة لا تستطيع ذلك، فهذا تنظيم دولي تحكمه مفاهيم واحدة قامت عليها حماس كحركة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وأصبحت الدول العربية وأنظمتها في حالة اشتباك حاد مع جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك أشتباك مع جماعات تابعة لإيران، وإيران نفسها، كما في اليمن وسوريا ولبنان وتهديد دول الخليج، وكلا الطرفين الإسلاميين، الإخوان وإيران وحماس وحزب الله الذين دخلوا في تحالفات مناوئة للدول العربية وأنظمتها، وهو ما ترك أثرًا سلبيًا على تلك الدول، وكذلك الأثر السلبي المتروك للرسمية الفلسطينية في رام لله على تلك الدول.
وبالمناسبة وليس دفاعا عن التطبيع بالتأكيد، ما حدث هو ليس هرولة بل جاء بعد سنوات طويلة من أثر سلبي تركه قادة ورئيس وتنظيمات فلسطينية، دون إدراك وحسابات لأثر تراكمي لما سوف ينتج عنه، وهذا تقصير كبير من الجانب الفلسطيني، وهي سياسة ليست محترفة للصالح الفلسطيني العام، وهي أخطاء إمتدت أيضاً من خطأ سابق لياسر عرفات حين قال بإستقلالية القرار الفلسطيني لحسابات عربية ضد بعضها، فأعطى العرب الفرصة الأولى للتخلص من هم القضية الفلسطينية، وتبعه في مواصلة مشوار إعطاء العرب فرص أخرى، حماس وعباس، ليتنصل العرب نهائيًا من القضية الفلسطينية، والبحث عن مصالحهم، وحمايتهم بعيدًا عنا، بعد أن أخافتهم حماس من الوصول لحكم فلسطين وإرتباطها بجماعة الإخوان، أضف لذلك تلاعب عباس بعلاقات فاترة مع غالبية الدول العربية، وخاصة المركزية منها، وتنامي علاقاته مع قطر وتركيا نكاية بالإمارات ومصر والسعودية على خلفية خلافاته الفتحاوية الداخلية. وتراخي عباس في دعم موقفهم، وظل على علاقة مع قطر وتركيا وقاطع الامارات لمصالح الكرسي، وهذا خطأ جسيم، وكان يمكن تطوير علاقات مع دولة الإمارات كما السعودية ومصر، وليس معاداتها لترضى عنه قطر وتركيا ويرضي شلة المركزية الطامعين في الرئاسة من بعده، ويرضونه بالهجوم على الإمارات في رحلة غباء سياسي، ويرفض منها الدعم للشعب الفلسطيني، وبمرور الوقت أصبح “أثر” سياسات عباس دافعًا آخر يضاف لدافع خشيتهم من جماعة الإخوان وحماس، للإبتعاد عن القضية الفلسطينية، والآن بدأ الشعب الفلسطيني يدفع الأثمان نتيجة مواقف شخصية لعباس، وليست وطنية، وتلك شخصية عباس الذي لا يتمتع بالحكمة في هذا الشأن، ولذلك تبعه كل هذا “الأثر السلبي” على قضيتنا، أضف لذلك خطورة المحور الثاني، محور إيران والتنظيمات الشيعية عليهم، ولذلك أخطاء حماس وعباس وسياساتهم غير المحترفة و”آثارها” تدفع ثمنها القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بسبب إدارة السياسة الخاطئة وغير الذكية، وآثارها السلبية المهملة من ذاكرتهم.
الأحزاب الأخرى في فلسطين، وخاصة اليسارية منها، تقادمت سياساتها، ولم تُحدِث سياساتها، ولم تكسب مواقع عربية ودولية جديدة، وبقيت في سياسة زمن السبعينات، ولم تبدع في سياسات جديدة، تمنع آثار سياسات حماس وعباس السلبية على الدول العربية كحاجز مانع من تراكم أثر السياسات ذاتية المصالح لعباس، والمرتبطة بجماعة الإخوان لحماس، وبقيت في المكان تراوح دون أثر على الحزبين الكبيرين، وظهر هذا جليا في عدم التأثير في موضوع المصالحة، ولم يصنعوا سياسة ثورية جديدة تجلب الشعبية لهم، ويكبر أثرهم في المجتمع الفلسطيني لتشكيل تيار ديمقراطي ثالث منافس في العدد والإمكانيات، لإحداث توازن رادع لحماس وعباس، ولم يطوروا في علاقاتهم مع العرب، وظلوا على مواقف السبعينات، والحياة السياسية تتطور من حولهم.
المثقفون والكتاب والأدباء في فلسطين تقادموا أيضاً، ولم يظهر أعداد ونوعيات مؤثرة تحمل فكرًا جديدًا لشعبنا، بل تذيلت هذه الشريحة الهامة واللازمة للسلطتين بحكم أن غالبيتهم أصبحوا موظفين فيهما، قضوا جل وقتهم وإنتاجهم دون ثورية لتغيير الواقع المرير، في مهادنة السلطتين في رام الله وغزة، والبحث عن رزقهم من الثقافة والكتابة ولم يعتقل أو يحاكم منهم أحد لأنهم لم يشتبكوا ثقافيا أو سياسيا بالسلطات وتوخوا الحذر والتقية والممالقة، إلا عددا أقل من أصابع اليد الواحدة، ما أدى لموتهم ثقافياً وإجتماعياً وفقدان دورهم، رغم حضور كتاباتهم المهادنة والمترزقة، وحتى إنتاجهم لم يتناسب مع الحالة الثقافية المطلوبة لتغيير الواقع، وتقادمت أفكارهم وغاصوا في قصص التاريخ خوفا من البطش من الحكام، فلم يحدثوا ثقافة في المجتمع الفلسطيني.
هكذا تقادم الجميع، الرسمي والسياسي والحزبي والثقافي، وبات المجتمع دون أدوات تحريض ونهوض لتغيير الواقع وتثويره، وما عاد الثوار ثوارًا، وما عادت الأحزاب أحزابًا، وما عاد المثقفون روادًا يفرشون أرضية التغيير، وأصبح مجتمعنا يلف حول ذاته، يخشى بطش الاحتلال وبطش الحكام، ونامت قضيتنا، نامت عليهم حيط جميعهم، حتى بدينا، وبدت قضيتنا، مفعولا بنا ومفعولا بها ..
المحزن أن هؤلاء جميعاً أصبحوا جالسين جنب الحيط مثل أساتذة مدارس متقاعدين يمارسون مهنتهم بأثر رجعي على الناس وعلى الدول، و”ماسكين قلم وبيحطوا صح وغلط لأي ناشط أو موقف لشخص أو لدولة”.. إنها الخرفنة السياسية والحزبية والثقافية في فلسطين والهروب من المسؤولية وتحميلها للآخرين، في عصر الثورة الرقمية والسياسة الإحترافية الحديثة.