اِنحدار المسار* يوسف طراد
النشرة الدولية –
أول كلام رواية (حارس الموتى) للأستاذ جورج يرق: “هذه الرواية من نسج الخيال” وهل للخيال أن يطبع واقعًا إلى حدّ الدهشة، عبْر فترةٍ ابتعد فيها الوطن إلى فسحات الشقاء؟
ثلاثماية وأربع صفحات، ضمّت واحدًا وأربعين فصلًا. لكن الرواية أقسام عدّة مترابطة مع بعضها بحبلٍ سريّ، حاول بطل القصّة قطعه للتخلّص من كلّ قسمٍ على حدة. لكن مشيمَة الرعب والبؤس زوّدت القصّة بمواد منظومةٍ معقّدة تشبه شبكة صيد لا خلاص منها، جناها التشرّد.
أحداثٌ جرت في فترة سيطرة الأحزاب على الوطن، وكان لكلّ حزبٍ دويلة في قلب الدولة. إنها ليست صدفة أن يتحوّل شباب لبنان إلى المجهول والموت، وليس كما جاء على لسان بطل الرواية: “المصادفة وحدها مسؤولة عمّا أعانيه الآن”. ربما جعل الكاتب الصدفة بابًا للرواية. لكن الشباب الذين انخرطوا في الأحزاب من جميع أنتماءاتها، لم تلعب الصدفة في بداية حياتهم الحزبية. كانت دوافعهم مختلفة باختلاف عقيدة أحزابهم. أحداث 1975 جاءت بعد تظاهرات طلّابيّة في السنوات التي سبقت هذا التاريخ، مع غزوٍ للأفكار التقدّمية اليسارية والالتزامات اليمينية الوطنية التي لقّبت بالانعزالية.
اليسار ناصر الفلسطينيين الذين حلموا بأن تكون جونية طريقًا للقدس، ولم يناصروا القضيّة الفلسطينية سوى في بدايتها زمن النكبة. فقد كان هنالك تنسيق رهيب لتشويه الحقائق وغسل الأدمغة، وهم غير عالمين أن حقيقة وجود لبنان مسمار في نعش الصهيونية، لأن زواله بقاء لإسرائيل كونه الوطن البديل للفلسطينيين. أمّا اليمين فلم يكن لديه إلّا خيارًا واحدًا هو الدفاع عن الأرض والمقدّسات، ليس ضنًّا بالقضيّة الفلسطينية، فإنها أعدل قضيّة منذ وعد بلفور المشؤوم، بل لانحدار مسارها إلى أهواء زعماء دول تخلّت عنها جهرًا أو خفاءً. الحقيقة أن يوميات القصّة حصلت خلال هذه الفترة التي حملت عناوين عريضة أسّست للرواية. حيث أصبحت الشعارات الفضفاضة والممارسات الشاذة للأحزاب من جميع الانتماءات طقوسًا مفروضة على المجتمع كطقوس تقديم الضحايا البشرية للآلهة القديمة.
عبر عابر ليطاني من القرية إلى بيروت، بعد مصادفته مدّرسًا جريحًا قرب مكبّ الزبالة العائد للضيعة. سبب جروحه هو ذاته سبب جرح الوطن، صراعٌ حزبيّ في كلّ قريةٍ وكلّ منزل. الخوف من إلصاق التهمة به، جعله في رحلةٍ إلى المجهول بموافقة والده ورعايته. يحضرنا في خضمّ هذه المعمعة قول للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي: “إن المار من جانب الضحية ليس بريئًا من دمها”. بعدما تفاقم الوضع واغتيال ابن رئيس البلدية، غادر القرية سرًّا ملتجئًا إلى منزل أحد أصدقاء أبيه في مدينةٍ مجاورة.
بين مكان لجوئه وبيروت ظهرت حدود الوطن الماغطة عبر رحلته في سيارة تاكسي مكتظّة بالركاب. إذا اعتبرنا أن الوطن هو قطعة من الجغرافية ذات سيادة وهو كذلك، يبقى لعابر ليطاني وغيره ممن يطمح بالحياة خارج مساحات الانبطاح، مساحة صغيرة يمارسون فيها حرّية غير مقيّدة. فمعظم الأراضي اللبنانية كانت تحتلّها القوّات السورية، وقد شرّعت وجودها بالقوّة.
بداية تجربة الحياة في بيروت تشرّد ونوم في سيارات كان يفتحها بالحيلة أو بالقوّة. هو الشاب المعفى من خدمة العلم، لم يعفِ نفسه من التدريب في أحدى ثكنات الأحزاب المسيطرة على الوضع في المنطقة. طمعًا بالقوت ومكان للنوم تحمّل قساوة وذل التدريب، كما تحمّل سوء الرفقة. فكلّ مسؤولٍ يتصرّف برعونةٍ خارج الأطر التي وضعها الحزب، وليس مصادفة كان عابر أحد أدوات التنفيذ في كل مرّة. نهاية التدريب احتلّ المرتبة الأولى بالرماية، لأنه اعتاد صيد الطيور في قريته وهي في وضع الطيران، مما أكسبه خبرة كبيرة للتصويب على الأهداف المتحرّكة. مارس وظائف عدّة في الثكنة إلى أن عيّن قنّاصًا لأحد مواقع خطوط التمّاس. الثابت في حياته الحزبية هو صداقته مع أحد رفاق السلاح الملقّب بعزيزي. هذا الأخير تكتنفه الأسرار، حيث كان يدوّن جميع ما مرّ به وشاهده على دفتر يوميات، إلى أن توفي بحادث إطلاق نارٍ غامض في غرفته، عزاه رفاقه إلى حادث انتحار. لكن عابر تأكّد أنه اغتيال ربما بسبب اليوميات، اعتقاده هذا جاء عن خبرة بسبب مطالعاته لمعظم روايات أغاتّا كريستي.
أسرار عزيزي سبب لجوء عابر إلى أحد المستشفيات للعمل. “كتب عليّ الهرب دومًا من جرّاء الخوف، ومن جرّاء أمور لا صلة لي بها”. كانت واسطته نسيبةً له تعمل مدبّرة منزل عند أحد الأطبّاء. عمل في برّاد الموتى نهارًا وفي غرفة العمليات ليلًا. أسرارٌ كثيرة اكتنفت غموض ممارسات الممرّضين والمسؤولين عنهم من راهبات وغيرهم. سرقات منظّمة للأحياء والأموات. متاجرة بالمشاعر والأحاسيس والمعدّات الطبّية الآتية هبة من منظّمات دولية، حتى توصّل الأمر إلى اقتلاع أضراس الموتى المصنوعة من الذهب وبيعها.
اِختطاف عابر، وحجزه في غرفةٍ من مبنى مهجور، وإطلاق النار عليه من قبل خاطفيه ورميه تحت جسرٍ اعتمده أصحاب العصابات لرمي الجثث وتصفية الحسابات، “بين الحياة والموت، رحت أنادي بعينيّ المرتجفتين ظلال العابرين على الجسر” جعل النهاية مبهمة ولم يُذكر إذا ما أنقذت الضحية. هذه النهاية ليست بمنأى عن السرد، من جهة الاحتمالات المزروعة بين السطور بعد كلّ حادثة حصلت مع بطل القصّة، وكانت التساؤلات سيّدة الكلام والأوهام. فالجميع كان يشكّ بالجميع في مجتمعٍ فرغ من القيم. إذ لم يكن معظم الشباب مؤمنًا بأحقية الأهداف التي يحاربون من أجلها “لا قضيّة لي كي أضحّي من أجلها، كثير من رفاقي هم مثلي جاؤوا إلى الحرب مضطرّين”.
تتسمّر عيون القراء بشغفهم على بطل القصّة ومن وراءه، مذ جلسوا مكان السلطة. ليس طمعًا بالسلطة لكن لغيابها. في حين تمّ تفاقم نزق المسؤولين، حتى صار من المستحيل تحمّلهم أو مناقشتهم. وأصبحوا أشبه بآلهةٍ صغار أفسدهم وهج السلاح. إصابتهم بهوس السلطّة ليس بطارىء، هجموا عليها بأفواه جائعة تخطّت بذاءتها المناظرات التلفزيونية المنفردة كما يحصل اليوم. فقد أكّد لنا جورج يرق استحالة اجتراح معجزة تداعب الأصالة الوطنية المبنية على أساسات لبنان الكبير.
نقلاً عن موقع “monliban” الإخباري اللبناني