إسرائيل والغرب ومحاربة الوجود والهوية الفلسطينية
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

احتلال لا يستهدف البشر والحجر بل يستهدف التاريخ والهوية أيضاً. احتلال جاء بمساعدة الغرب، منذ أوائل أيامه ولا يزال مستنداً عليه ومدعوماً من قبله حتى اليوم. فالشعب الفلسطيني لم يواجه ويتصدَ لأطماع واعتداءات الحركة الصهيونية ودولتها من بعدها فقط، إنما يواجه عالماً غربياً بأكمله، كان بقيادة بريطانيا في الماضي، وبات بقيادة الولايات المتحدة، اليوم. فما بين احتلالٍ مسكوتٍ عنه لعقود واتفاقٍ (أوسلو) فقد مضمونه بعد خمس سنوات من توقيعه، وهي السنوات التي وضعت سقفاً لحل القضية الفلسطينية بشكل دائم، يستخدم الغطاء السياسي والمالي الممثل بالصمت والمنح الأميركية والأوروبية المشروطة لـ”تسكيج” وضع مشوه وغير قابل للحياة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. والمضحك المبكي، تلك الوقاحة الغربية، التي سمحت للمستشار الألماني بوصف تصريحات فلسطينية شبهت مذابح الفلسطينيين المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود بـ”الهولوكوست” بأنها تصريحات “مقززة”، والتي لا تعكس إلا واقعاً عنصرياً وعقدة غربية، وعلى الفلسطينيين مواجهة هذه الحقيقة. تقف الدول الغربية متفرجة على انتهاك السيادة الفلسطينية في الضفة الغربية، مكتفية في أحسن الأحوال بالإدانة والتنديد، كما حدث، مؤخراً، في حادثة الإغارة والاعتداء على سبع منظمات غير حكومية فلسطينية، ومصادرة محتوياتها وإغلاقها، وتهديد العاملين فيها بالاعتقال، بعد اتهامها بالإرهاب. ولا يعد الصمت الغربي على انتهاك السيادة الفلسطينية المكبلة والمنزوعة القوة استثناء في حادثة الاعتداء على هذه المنظمات في عقر دارها، فالانتهاكات بحق الفلسطينيين من قبل قوات الاحتلال قائمة ومستمرة في الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والمنشآت والاعتقالات اليومية واحتجاز الفلسطينيين دون محاكمة بل وقتلهم أيضاً، والقائمة تطول، والصمت أو الانحياز الغربي لإسرائيل بات السكوت عنه مرفوضاً. ولا تكتفي الولايات المتحدة والدول الغربية بالوقوف متفرجة أمام انتهاك السيادة الفلسطينية وانتهاك اتفاقات أوسلو التي تضمن بقاء العمل بها، وإنما تشارك تلك الدول ذاتها بانتهاك السيادة الفلسطينية عندما تشترط تغيير مناهج التعليم في فلسطين، مجاراة لإسرائيل الساعية لطمس الهوية الفلسطينية، تماماً كما تتدخل في عدم صرف مستحقات الأسرى الفلسطينيين.

يوم الخميس الماضي، أغارت قوات الاحتلال على الضفة الغربية كعادتها، متوجهة هذه المرة لاقتحام المؤسسات الفلسطينية غير الحكومية السبع ومصادرة محتوياتها وإغلاق أبوابها بالقوة. الجديد في هذا التصرف أنه جاء على الرغم من فشلها في إثبات شيطنتها لهذه المؤسسات، بل أكدت الولايات المتحدة أن أدلة إسرائيل بذلك غير كافية، وأعادت عدد من الدول الأوروبية المنح التي قطعتها عن تلك المؤسسات، بعد أن تكشف لها عدم صحة تلك الادعاءات الإسرائيلية. والمشكلة، الآن، أن الجميع بات يعرف بحقيقة التبلي الإسرائيلي على هذه المؤسسات، كما أن الجميع يعرف هدف إسرائيل من ذلك التبلي، إذ اعتبر عدد من النواب الأميركيين في رسالة أرسلوها لأنتوني بلينكن وزير خارجية بلادهم، الشهر الماضي، أن هدف إسرائيل من ذلك هو إسكات منظمات حقوق إنسان ذات الصوت المسموع عالمياً. وأقصى ما يمكن أن تفعله عدد من الدول الغربية أو المؤسسات الدولية، اليوم، الإدانة والشجب، إذ لا يقوى أحد منها على مساءلة إسرائيل أو حتى استدعاء سفيرها لدى تلك الدول. كما أن الخاسر الأكبر هو الشعب الفلسطيني بأطيافه المختلفة، إذ ليس خفياً أن هذه المؤسسات تدعم صمود الأسرى والأطفال والنساء والمزارعين، ناهيك عن رصدها لأدلة يومية تدين الاحتلال لانتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان في فلسطين.

إن الصمت الغربي والذي يمكن وصفه بدعم إسرائيل وممارساتها الموجهة ضد الفلسطينيين يمكن فهمه من خلال تحليل موقف الدول الأوروبية تجاه السلطة الفلسطينية في قضية تغيير المناهج التعليمية، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتشكيل الهوية الفلسطينية. في شهر نيسان الماضي، ربط الاتحاد الأوروبي تحويل دعم مالي للسلطة الفلسطينية بقيمة ٢١٤ مليون يورو بتغيير المناهج التعليمية في أراضي الضفة الغربية، وجاء ذلك بعد تبني لجنة مراجعة الميزانية في البرلمان الأوروبي في شهر نيسان من العام ٢٠٢١ ذلك الموقف. وتهاجم إسرائيل المناهج التعليمية الفلسطينية وتتهمها بالتحريض على الاحتلال، وتروج لذلك في أروقة صنع القرار للولايات المتحدة والدول الأوروبية والمؤسسات الدولية. وطالب تقرير لجنة مكافحة العنصرية في الأمم المتحدة السلطة الفلسطينية بإزالة نصوص وصور وخرائط، اعتماداً على ما تروج له مراكز إسرائيلية. ويطالب الفلسطينيون بتشكيل فريق دولي لدراسة النظم التعليمية الفلسطينية والإسرائيلية، إلا أن إسرائيل ترفض ذلك. ويعتبر موقف الاتحاد الأوروبي بإخضاع الفلسطينيين وحدهم لمراقبة ومراجعة مناهجهم التعليمية تحيزاً أعمى وغير مبرر لدولة الاحتلال، خصوصاً مع ثبات عنصرية وتحريض مناهج التعليم الإسرائيلية ليس فقط ضد الفلسطينيين، بل ضد كل ما هو عربي ومسلم. وتخضع المناهج التعليمية في إسرائيل لرقابة صارمة، تعزز التوجهات الأيديولوجية الصهيونية واليمينية اليهودية، وتحمل رؤية عنصرية استعلائية. كما أن تلك المناهج تعتمد على تحريف التاريخ والجغرافيا لإثبات حق اليهود في فلسطين وتغييب الآخر “ابن هذه الأرض”. واعتبر الباحث اليهودي أدير كوهين في دراسة له حول محتوى كتب الأطفال في إسرائيل أن غالبيتها تتضمن إشارات مسيئة للفلسطينيين وتحث على قتلهم.

إنها معركة الهوية التي تشنها إسرائيل بضراوة لسلب هوية الشعب الفلسطيني، فلم تكتف إسرائيل بسلب الفلسطيني أرضه وحريته وحقه وسيادته بل تتعمد تشويه هويته وفرض ملامح لها حسب معاييرها، ويتضح ذلك بجلاء في معركتها مع المقدسيين على مناهج التعليم. بدأت إسرائيل هذه المعركة عندما احتلت المدينة المقدسة العام ١٩٦٧ وضمتها بعد ثلاثة أسابيع فقط من احتلالها، وفرضت قانونا خاصا لإخضاع التعليم لإشرافها، إذ كان يدرس في ذلك الوقت منهج التعليم الأردني. تصدى المقدسيون بشراسة لمخطط الاحتلال ووضع معظمهم أولاده في المدارس التابعة لدائرة الأوقاف الإسلامية أو المدارس الخاصة أو مدارس وكالة غوث اللاجئين، فباتت المدارس العامة شبه خاوية، فتراجع الاحتلال عن قراره، وأبقت على المنهاج التعليمي الأردني. في العام ١٩٩٣، تسلمت السلطة الفلسطينية الإشراف على المناهج التعليمية في الضفة وغزة، لكن في القدس بقي المشهد ضبابياً، وإن تبع المنهج العام للسلطة الفلسطينية. بدأت مساعي الاحتلال منذ ذلك الوقت لفرض رؤية تعليمية تعكس مخططاتها لوأد الهوية الفلسطينية، فصعدت سيطرتها على المدارس العامة وبدأت بإغلاق مدارس الوكالة وتحويلها لمدارس عامة، وسعت للسيطرة على المدارس الخاصة الأهلية والتابعة للأوقاف الإسلامية، بالمساومة على الاعتراف بها تارة ومنحها تصاريح بناء تارة أخرى وتخصيص ميزانيات مشروطة تارة ثالثة. واليوم، ومع بداية العام الدراسي تصاعدت هجمة الاحتلال على مدارس القدس، فأعلنت عن سحب تراخيص ست مدارس مقدسية، والسماح لها بالعمل ضمن ترخيص مؤقت لمدة عام، بتهمة تدريس المنهاج التعليمي الفلسطيني. وتفرض إسرائيل على مدارس القدس دراسة المنهاج الفلسطيني لكن بعد إجرائها تعديلات على مضمونه، تغير في الحقيقة من جوهره ورؤيته، إذ تلغي جميع ما يتعلق بالوطنية والرؤية التاريخية والاحتلال، حتى أنها غيرت كلمات في بعض الآيات القرآنية، ورفعت نصوص بأكملها. ويحارب المقدسيون، اليوم، للحصول على الكتب التعليمية الفلسطينية وتهريبها لتصل إلى مدارسهم لتدريسها بدل تلك الشبيهة المشوهة.

يقف الفلسطينيون، اليوم، وحدهم في معركتهم المستمرة مع الاحتلال وأتباعه، وهي معركة ضروس تحتاج لنفس طويل ورؤية ثاقبة ورص للصفوف ومزيد من التضحيات، خصوصاً أن معركتهم مع العدو وصلت حد وأد الهوية أيضاً. ويرفض الفلسطينيون المعايير الإسرائيلية أو الغربية التي تتحكم بمناهجهم التعليمية وهذا حق سيادي ليس من حق أحد التدخل فيه، وهناك حاجة للبحث عن آليات تحرر المدارس في القدس من سلطة الاحتلال، وإيجاد آليات لتمويل مستقل. وفقد اتفاق أوسلو معناه بعد خمس سنوات من توقيعه، بعد أن رفضت إسرائيل تنفيذ بنوده، إذ ينص البند الخامس منه على أن تبدأ مفاوضات الوضع النهائي مع بداية العام الثالث من الفترة الانتقالية أي بعد بدء تطبيقه، على أن تكون الفترة الانتقالية خمس سنوات فقط. كما تحدث البند السادس منه عن نقل السلطة للفلسطينيين مباشرة بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وركز البند الرابع على أن الضفة وغزة وحدة واحدة، فلم تحترم سلطة وسيادة الفلسطينيين ولم يحافظ على وحدة الأراضي الفلسطينية، كما انتهكت الولاية الإقليمية والوظيفية والشخصية للسلطة الفلسطينية، والتي وردت في البند الثاني من اتفاقية أوسلو ٢ بشكل يومي وصارخ. وهدف الاتفاق كما ورد في البند الأول والثالث منه لتطبيق قراري مجلس الأمن ٢٤٢ و٣٣٨ وتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بات واضحاً أنه بعد مرور حوالي ثلاثة عقود على التمسك باتفاق أوسلو لم يتحقق أي من أهدافه بل باتت بعيدة جداً عن التحقق، ما يفرض البحث عن طريق آخر لتحقيق الحق.

زر الذهاب إلى الأعلى