بسيوني: على الروائي أن يفلت من التبعية للمنتصر تاريخيا

النشرة الدولية –

المنتصرون يكتبون التاريخ وقد يلونونه كما يشاؤون ليؤكدوا أنهم الأفضل والأعظم، وأن انتصارهم هو انتصار للحق والعدل والخير. لذا فرواية المنتصرين للأحداث ليست بالضرورة صحيحة، لذلك تصدى الكثير من الروائيين لكشف ما ظل مخفيا أو مزيفا من التاريخ. “العرب” كان لها هذا الحوار مع ريم بسيوني واحدة من هؤلاء الروائيين.

التاريخ المكتوب قد يكون مزيفا وأوضح الأمثلة على ذلك، أن وصم الأتراك للمماليك في مصر والشام بالتخلف والانحطاط يُمكن تفنيده بسهولة، ودحضه بنظرة تأمل عميق لعمائر وآثار وفنون المماليك الباقية التي تنفي تماما ما ساد في معظم كتب التاريخ من تشويه متعمد لهم.

هذا ما لفت أنظار مجموعة من الروائيين الذين اهتموا بتقديم روايات تاريخية جديدة تخالف ما هو شائع للأحداث والشخوص الفاعلين في أزمنة المماليك، فحاولوا رد الاعتبار لدولتهم باعتبارها دولة لها حضارة وإنجازات، ومن هؤلاء الروائية المصرية ريم بسيوني، التي فازت روايتها الأحدث “أولاد الناس” أو “ثلاثية المماليك” بجائزة نجيب محفوظ للرواية هذا العام.

التقت “العرب” بالأديبة المصرية لتؤكد أن مُهمة الأجيال الجديدة من الروائيين تجاوزت رواية المنتصر، وتحليل الأزمنة السابقة وقراءتها بشكل مختلف يراعي القراءة الواقعية بعيدا عن الإنصاف أو التجريح.

تقول ريم بسيوني لـ“العرب”، “إن العصر المملوكي لم يكن عصرا يسوده التخلف والانحلال كما يتصور البعض، بل كان عصر نهضة وقوة، حيث كانت الدولة المملوكية قوية، ولها حضورها الإقليمي وتأثيراتها الممتدة حتى حدود أوروبا، ولم يُغيّر الاحتلال العثماني لمصر والشام أحوال الناس ويطور حيواتهم للأفضل، إنما تردى بهم وتسبب في تأخر الفنون والحرف والتجارة”.

وريم بسيوني أستاذة جامعية، تترأس قسم اللغويات بالجامعة الأميركية بالقاهرة، وحصلت على الماجيسير والدكتوراه في اللغويات من جامعة أكسفورد، وصدرت لها سبع روايات هي “رائحة البحر”، و”بائع الفستق”، و”الدكتورة هناء”، و”الحب على الطريقة العربية”، و”أشياء رائعة”، و”مرشد سياحي”، قبل أن تصدر هذا العام رواية “أولاد الناس”.

 

وترجمت معظم أعمال الروائية إلى اللغات الإنجليزية واليونانية والإسبانية. وصدرت عدة مؤلفات علمية لها باللغة الإنجليزية، أبرزها: “اللغة والهوية في مصر الحديثة”، و“الإعلام والعرب”، و“اللغة العربية واللهجات المختلفة”.

وتعد الكاتبة لتجربة روائية جديدة، لم تفصح عنها، ذات أبعاد تاريخية، تعمل على الجانب البحثي فيها، لتؤكد أن الإبحار في مجال الروايات التاريخية يمكن أن يشبع فضول أجيال عديدة من المبدعين العرب.

تؤكد بسيوني لـ“العرب”، أن العمارة كانت الدافع الحقيقي للبحث في تاريخ المماليك وإعادة قراءته بشكل إبداعي، وأن قالب الرواية هو الأكثر قدرة على التأثير في المجتمع، وأنها كفن سردي تمنح صاحبها إمكانية مد خيوط درامية متشابكة وإنشاء عوالم إنسانية تعيد بعمق قراءة ما يعتبره البعض مسلمات.

وتضيف، أنها كانت مُنبهرة بمسجد السلطان حسن بالقاهرة، والذي يعتبره علماء الآثار أفضل أثر إسلامي في العالم، ورأته جديرا بأن يكون محورا لعمل روائي يستند على التاريخ ويعيد قصه دون توجهات أيديولوجية مسبقة.

قسمت ريم روايتها (ثلاثية المماليك) إلى ثلاثة أجزاء، يتناول الأول منها نشأة السلطان حسن وحكمه، والثاني تحول مسجده إلى ساحة قتال ومساجلات وصراعات على السلطة، ثم يقدم الجزء الثالث كيفية استغلال العثمانيين لحالة الصراع واستيلائهم على مصر، لتحويلها إلى ولاية تابعة لهم.

وتشير الكاتبة إلى أن أكثر ما لفت انتباهها أن معظم الآثار الإسلامية الباقية في مصر تعود إلى حقبة المماليك، ما يعني أنهم كانوا متقدمين في الفنون خاصة فن العمارة، وكانوا يهتمون بالبناء والتشييد، وهو ما يتناقض مع القول بأن عصرهم كان عصر تخلف وانحطاط.

واهتم المماليك كثيرا بترميم وتوسعة آثار سابقيهم من الحكام، حتى أنهم أعادوا بناء الجامع الأزهر، والكثير من المساجد التي تعود إلى الحقبة الفاطمية.

وتوضح أن حقبة المماليك ظُلمت ظلما شديدا لأن المنتصرين الغزاة فرضوا روايتهم، وطمسوا ما حققوه على المستويات السياسية والعلمية والتجارية، حتى صار ذكر اسم المماليك إيحاء بذكر خصال الغدر والكذب.

ظلت النظرة إلى المماليك سلبية طوال عصر أسرة محمد علي، لأنه نفسه دبر لهم مذبحة دموية في مارس سنة 1811، وكان لابد من تبريرها باعتبارها تخلصا من أشرار الناس، وهكذا معظم الروايات التي تناولت المماليك في ما بعد نظرت إليهم وفق هذه الصورة السلبية.

تشير بسيوني إلى أن شخصية المملوك مثلت بالنسبة إليها تحديا كبيرا، فهو شخص غريب من بلاد بعيدة، يُختطف من أهله وهو طفل صغير، ثُم يُربى ويُعلًم الفروسية والدين، ويعيش في وطن آخر لا يلبث أن يتحول إلى وطنه، ويؤمن أن القوة هي الوسيلة الأهم للبقاء والترقي.

وسرعان ما يتحول المملوك، الذي لا يعرف لنفسه وطنا إلى مواطن حقيقي، حيث يشعر بالانتماء للبلد الذي تربى فيه، ويشعر أنه مسؤول عنه، وعلى استعداد دائم للقتال في سبيله، وهذا ما دفع بعض الكتاب والباحثين المتأخرين إلى اعتبار دولة المماليك في مصر، دولة مصرية خالصة.

ورأت الروائية أنه من الخطأ استسهال القول إن الناس كانت تكره المماليك، ذلك لأنهم حموا مصر وأهلها من أخطار المغول والصليبيين وحافظوا على الاستقرار أكثر من ثلاثة قرون.

وتلفت في حوارها مع “العرب”، إلى أن بعض المصادر التاريخية أكدت أن الفلاحين المصريين كانوا يخفون أمراء المماليك بعد الغزو العثماني لديهم، ما يؤكد وجود صلات محبة وشعور مشترك بالانتماء.

وذكرت بعض المخطوطات الإيطالية أن المصريين بعد الاحتلال العثماني كانوا يترحمون على المماليك وعصورهم لأنهم كانوا أكثر رحمة ورأفة بهم.

في تصور الروائية، أن سمات الدولة المملوكية فريدة وتكاد لا تتكرر مع دولة أخرى في العالم، وكان نظام الحكم فيها لا يورث، وإنما يُنتخب بين الأمراء والقادة، والصراعات دائمة، لكن وقت الخطر الجميع اصطفوا معا.

وتتابع “الدولة المملوكية شهدت نمو طبقة جديدة من المصريين، وهي طبقة أولاد الناس، في إشارة لأبناء الأمراء المماليك الذين ولدوا في مصر، وهي أشبه بالنخب المثقفة في عالم اليوم، ومنهم مثلا المؤرخ الشهير ابن إياس، صاحب كتاب (بدائع الزهور)”.

وتقول بسيوني إن هناك عصورا مملوكية عظيمة شهدت تقدما اقتصاديا ومعماريا مثل عصر السلطان قايتباي، والسلطان بيبرس، حيث اتسع نفوذ مصر السياسي ليصل إلى الشام وأطراف أوروبا.

وجاء في روايتها “لا حال يبقى ولا هزيمة تدوم ولا نصر يستمر. إن التاريخ مليء بالعِبَر التي تزرع فينا اليقين والريبة معا. اليقين من حتمية بزوغ الضوء مهما طال الظلام، والريبة من الاطمئنان إلى دوام الأمن والأمان. فالحياة دار كرب وشقاء، والنعيم له موعد وميقات”.

وتشدد في حوارها مع “العرب”، على أن قراءة الأزمنة الماضية صعبة جدا، وليس مطلوبا الاعتماد على كتاب واحد أو مؤرخ واحد وإنما المفترض أن نقرأ مؤرخين عاشوا في العصر وعن العصر، لذا اهتمت بقراءة ما كتبه المقريزي، ابن إياس، وابن تغربردي.

وتضيف بسيوني “لو نكتب رواية فيها أحداث حقيقية لا يمكن أن يكون تحرك الروائي كبيرا والتغيير جذريا، فلكل كاتب فكرته عن العصور ولابد من محاولة التعبير عن الصدق في ذلك إلى حد كبير”.

وتؤكد أن لغة العصر الحقيقية صعب الوصول إليها، لكن مطالعة مؤرخي العصر تقرب اللغة، ويمكن الاقتراب أكثر من العصر من خلال مسميات لوظائف أو مقولات شعبية متداولة، ومجالات بحث الروائي في العصور السابقة عديدة، وهي باعتبارها أستاذة جامعية، فإن ذلك يتيح لها طرق ومناهج بحث علمية، من هنا استغرقت بحوث الرواية نحو ثلاث سنوات، ما جعلها ترى أن التاريخ العربي طويل ومتعدد الثقافات، بما يفتح للروائيين الباب لطرح حكايات مدهشة وتقديم محاولات تجريب أكثر حداثة.

ولأن معظم قراءاتها في مجال التاريخ والأدب، فهي تكن تقديرا كبيرا للأديب الراحل نجيب محفوظ وأعماله، خاصة التي قدمت الحواري الشعبية في مصر، ويعجبها الراحل يحيى حقي في لغتة وتصويره للشخصية المصرية، والكاتب جمال الغيطاني، المفتون بتاريخ المماليك، والمولع بالآثار والعمارة.

واعتبرت أن لغة الروائي تتشكل من الخبرات المتراكمة والقراءات المتعددة ومحاولات التجريب المختلفة، إلى جانب الموهبة التي تتطور عبر الزمن.

زر الذهاب إلى الأعلى