الشاعر خالد الحلي: مرارة الصوت في “لا أحد يعرف اسمي”… لا أحد يسمع صوت صراخ دمائي الآن
النشرة الدولية –
أصدر الشاعر المغترب خالد الحلي مجموعته الشعرية الجديدة “لا أحد يعرف اسمي” في طبعة أنيقة مزيّنة باللوحات والصور المنتقاة، وقد تُرجمت هذه القصائد إلى اللغة الإنجليزية، من قبل الأديب والمترجم رغيد النحاس، فجاءت المجموعة وهي تحلّق بشكل جميل على جناحي اللغة الإنجليزية والعربية.
والشاعر خالد الحلي من الشعراء المقلّين في النشر، فرغم أن قصائده الأولى كُتبت في منتصف ستينيات القرن الماضي، لكنّه لم يكترث كثيرا لنشر الكثير منها. وقد أفصح عن هذا الأمر في مقدمة مجموعته الشعرية مدن غائمة بقوله:
“تخلل كتابتي للشعر فترات من الانقطاعات الشعرية، وكنتُ أعيشُ الشعرَ طيلة فترة القطيعة، فأكتب عندما تتيح لي نفسي فرصة الخلق، فأواصل كتابة القصيدة”.
والشاعر خالد الحلي شاعر سبعيني هاجر من العراق إلى المغرب، حيث اشتغل في الصحافة المغربية من أواخر السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. وأصدر مجموعته الشعرية الأولى “مدن غائمة” عام ١٩٨٨ بمدينة الرباط، وجمعت قصائد غير مؤرخة، وبعضها يرجع إلى بداية ستينيات القرن الماضي. ولكنّ انشغالاته الحياتية وتنقله من بلد إلى آخر، وحالة عدم الاستقرار التي ترافقه، جعلته ينقطع عن الشعر أحيانا، ولكنه يعود إليه وكأنه البديل لكل الصعوبات التي اعترضت حياته، كما أنّ العمل الصحفي قد استغرقه كثيرا، وهاجر شاعرنا من المغرب في أواخر الثمانينيات، إلى أستراليا ولا يزال يعيش هناك في مدينة ميلبورن.
اختار لديوانه الجديد عنوانا ذا مغزى، ينطلق مما يُشاع عن تسمية الكنغارو، في أنّ المستكشفين الأوائل الذين حلّوا في أستراليا لأول مرة، سألوا السكان الأصليين عن اسم الحيوان الذي يقفز بسرعة وله يدان قصيرتان، والذي لم يكن معروفا في بقية العالم، وقد رأوه لأول مرة، فأجابهم السكان “كونگارو” وتعني “لا أفهم السؤال”.
وظن المستكشفون أن هذا هو اسمه، فأطلقوا عليه “كنگارو/ لا أفهم” وبقي معروفا بهذا الاسم الذي لا يمتّ إليه.
وتبنى الشاعر خالد الحلي هذا الافتراض، ليؤسس عليها مسندا رمزيا يتكئ عليه في رؤيته الشعرية التي تنطلق من المهجر الأسترالي، ومفادها أن جيل المهاجرين – وهو أحدهم – يسبحون في فراغ الهوية، ضمن مجتمع مهجري جديد، قد يوفر لهم بعض المباهج اليومية الصغيرة، ولكنه لا يسعفهم بمشاعر المواطنة الحقيقية، فيعيشون أحلام العودة المستحيلة لوطن انقطعوا عن جذوره، وبقوا في حالة قحطٍ عاطفي وإنساني، متأرجحين بين الوطن البعيد والذي يئن من أزماته وبين وطن بديل، لا يمثل بالنسبة لهم إلا جزءا يسيرا من روح الانتماء، فتبقى هوياتهم غير واضحة المعالم كالكنگارو الذي له حضور جسدي ورمزي وجغرافي، ولكن تحوم حول اسمه الشكوك، فالكل يعرفه، والكل يجعل منه شعارا للقارة، ولكن لا أحد متأكد من حقيقة اسمه.
في مجموعته الشعرية الجديدة “لا أحد يعرف اسمي” والتي طُبعت بدار “كلمات للطباعة والنشر” بسدني عاصمة أستراليا، يحاول الشاعر أن يختط له طريقا من خلال صوته، كي يتحامل على فاجعة العزلة التي يكتوي بها في أوج اغترابه. هذا الشاعر الذي جعل من صوته قرينا له، يتعايش معه ويتحمّل مرارة أيامه، هذا الصوت الذي أصبح غير قادر على التعبير عن معاناته، لأن ثمة أحجارا غير مرئية تساهم في تبديد قدرته على البوح، وحتى إذا تجاوز صوته بعض الحدود، فلا أحد يسمع صراخه:
“لا أحد يسمع صوت صراخ دمائي الآن”
فيتحول الصوت إلى صراخ، ليعبّر عن عمق الفجيعة التي يتحسسها الشاعر:
“صوتٌ يتأرجح في الريح
وسرابٌ يتأرجح في الصوت
فلماذا تتأرجح روحي بحبال الصمت”
تتردد مفردة الصوت في أغلب قصائد المجموعة، رغم البون الزمني في كتابتها والذي يمتدّ ثلاثة عقود، من ١٩٨٨ إلى ٢٠١٨، فالصوت هو الذي ينبعث من أعماق الشاعر، ويتحول إلى وسيلته القصوى للبوح بما يكابد من غربة أو انكسار أو انتصار، أو فرح وحزن وأمل وألم. فهو القرين الذي يلازم الشاعر في معترك وحدته، وهو الهوية التي تحدد مدى انجذابه إلى قلق الحياة:
“يصحو صوتي منبهرا
يبحث عن ثمرٍ في أشجارٍ عاشقةٍ”
ولكنّ الصوت يتحول أحيانا إلى صدى خارجي، قد يكون رؤوما، ذا نبرة أنثوية، ومستفزا أحياناً أخرى. وقد يكون رغبة مستحيلة. وقد يكون طربا جميلا يتفوق على الموسيقى:
“الموسيقى تخجل من غبطتها
حين يبرعم صوتُكِ بهجتَها”.
في مقدمة المجموعة يسفح الشاعر خالد الحلي أحزانه، التي هي انعكاس للحزن العراقي الذي تعتّق فينا، فرغم أنه في المهجر منذ ثلاثة عقود، ولكنّ يعيش لحظة الوجع فيصرخ بالحزن أن يمهل العراقيين قليلا من الوقت فقد رافقهم عبر توالي الأزمنة، حتى تحوّل إلى سمة مميزة فيهم، فنجده ظاهرا في فنهم وكتاباتهم وفي شعرهم، لذلك فقيمة القصيدة، تخضع أحيانا إلى قدرتها على إظهار مكنونات الحزن الكامنة في الأعماق:
تتفجر الأسئلة حينما تكون القدرة هشةً على فعل التغيير، فيتحول السؤال إلى احتجاج ورفض للواقع الذي يسعى الشاعر إلى تغييره. ففي تأملاته المستقبلية لعالم على حافة ألفية تمضي وأخرى تأتي، والتي وردت في قصيدته “الألفية والمرآة”. تنعكس أمامه كل الأحداث في القرن العشرين من حروب كونية ومحلية وإلى مجاعات وتصنيع وكوارث طبيعية. ولكن رؤيته لما بعد الألفية لا تبدو متفائلة، فأوراق الزمن تتشابك، والآتي محفوفٌ بالاحتمالات، ومن خلال الذاكرة تنزف الأحداث في جسد نصوصه، فالأمس لا يختلف عن اليوم في درجة هبوطه نحو حضيض الواقع. والماضي بأحداثه تلاحق الذاكرة. والألفية تأتي باحتمالات مختلفة وكأنها تنعكس عبر المرايا المضببة، والتي تجعل التعايش معها محفوفا بالمجازفة.
إنه الحزن الأبدي الذي يطارد الشاعر في الوطن، ولكنّه حينما يلتقط أنفاسه في المهجر، تعصف به الذكريات والأحداث التي تتعرض لها الأوطان، فتسلب من المهاجرين الاستمتاع ببعض السلام الروحي، فالاوطان تطارد مهاجريها، وتُشبعهم بالحزن:
“يأخذني الحزن إلى وطني
من بابل أثوابي تبكيني، وأنا أبكي أيامي وسنيني”
في قصائده تندمج المرأةُ بالزمن وعطره وموسيقاه، يستظلّ بها من وحشة أيامه، ويجعل من وجهها مرآة لسنينه وماضيه. المرأة لدى الشاعر عشق أبدي جميل، يشدّهُ إلى الحياة، كما يحتمي بها من تعسّف الاغتراب والوحدة، فتتحول إلى وطن جميل:
“حين عشقتكِ فرّت كلُّ قبور الأزمان
قلتُ لنفسي إني أولد منذ الآن
حبّكِ فاتنتي كلُّ التاريخ وكل الأحلام وكل الأرقام”
ولكن هذا الافتتان بالمحبوبة، يذهب بعيدا حتى تتحول إلى وطن أو مدينة حيث الذكريات الغزيرة التي تنبعث من مخزون الذاكرة، فالحبيبة والوطن لا ينفصلان.
ورغم أن الشاعر يعيش في المهجر الأسترالي لفترة طويلة، ولكن قصائده لم تترجم فحوى البيئة الجديدة، وطبيعتها وزواياها ونمط الحياة فيها، فبقي متشبثا بأطلال الذاكرة التي تحمله إلى بغداد تارة، وإلى بابل تارة أخرى. وكأننا نشعر بأنه يعيش في الحلة ولم يغادرها، وهذا يعكس مدى تمسكه العاطفي بالوطن وأشجانه.
ومن خلال قصائده ندرك حجم معاناة الشاعر وعذابات الغربة، التي يعيش همومها بشكل يومي، متأرجحا بين المهجر، وبين الوطن البعيد.
قصائد المجموعة عبرت عن محنة الأوطان التي تطرد أبناءها لأسباب متعددة، فيتحول هؤلاء المهاجرون إلى ما يُشبه الأطفال الذين فطمت رضاعتهم من صدر الوطن، فرغم أن أكثرهم يتنعم بأجواء المهجر، ولكن يبقى الحنين إلى الماضي مترسبا في أعماقهم.
اللغة الشعرية أنيقة ومنتقاة، ويحرص الشاعر على نحت الصور كي تتناغم في أوزانها وتفعيلاتها، ولا يميل إلى نثرية النص، بل يجعله متألقا وحافلا بالمعاني، كما تأتي عباراته وجمله الشعرية وهي مُشبّعة بالموسيقى.