لعنة وطن الأرز* يوسف طراد
النشرة الدولية –
وطنٌ كاد يفقد هويّته في روزمانة الأيام السوداء لولا مقاومة نبتت من إيمان صلب قاومت جيشًا جرارًا بتاريخٍ حديث دامٍ مُؤرّخ في مجلّدٍ (هكذا واجه المقاومون الأحرار جيش الأسد في لبنان) للكاتب كلوفيس الشويفاتي.
بعد الإهداء الوجداني والمقدّمة الهادفة كان المدخل إلى الكتاب تحت عنوان (تشكيل قوّات الردع العربية على الأراضي اللبنانية) استند الباحث إلى مستندات، صور وخطّة انتشار مفصّلة مستقاة من عدّة مراجع موثقّة أهمّها، (الوضع القانوني والسياسي لقوّات الردع العربية في لبنان) للعميد الركن فؤاد عون، (مذكّرات الوزير فؤاد بطرس) للكاتب والباحث الأستاذ أنطوان سعد، (في عين الحدث خمسة وأربعون عامًا لأجل لبنان) للواء سامي الخطيب. وكانت (معركة بلّاَ المواجهة الأولى).
شهر نيسان 1977، معركة غير متكافئة، غدرٌ من الجيش السوري وحجج واهية للسيطرة على قضاء بشرّي كونه لم تلحظه خطّة انتشار قوّات الردع العربية سوى على مدخله عند مفرق طورزا من الجهة الغربية. إستعمل السوريون أحد أبناء البلدة طعمًا، تعمّدوا خطفه إلى جهةٍ مجهولة، بدأت المواجهة بحجّة تأديب العصابات التي اختطفته. نهاية الوصف الدقيق الذي أحصى تقريبًا كلّ شيء، سردٌ لقصّةٍ حقيقية قريبة من الخيال بواقعها المأساوي عن هرب والد الكاتب (بطرس) من الاعتقال على يد قوّات الردع التي داهمت منزله في برحليون واقتادته إلى قرية بلّا، قصّة موصوفة بطريقةٍ دقيقة وواقعية لكن بنفحة هوليودية تصلح لتكون أحد أفلام السينما المقاومة، عولج بطلها في مستشفيات بيروت رغم عناء الوصول بعد التحرّر من الأسر وما زال حيًّا يرزق رمزًا للمقاومة الشريفة إلى يومنا هذا بالرغم من الإصابات الخطرة التي تعرّض لها.
المعركة الثانية (معركة الفيّاضية). شباط 1978 معركة شرسة قام بها ضباط أكفاء وعناصر حديثي الخدمة (أغرار) منتصرين على جيشٍ محتلٍّ قويٍ جرّار وإجباره على الرضوخ إلى شروطٍ غير شروطه، خلال المعارك وصف الكاتب كيفية اعتقال نواب سوريين على الطريق قرب المدرسة الحربية ومعاملتهم بالحسنى واللين حسب اتفاقية جنيف خلافًا للمعاملة التي كان وما زال يتلقاها المخطوفون لدى الجيش السوري.
(مجزرة القاع) حزيران 1978 اعتقال 15 شابًا من بلدة القاع 6 من رأس بعلبك و5 من جديدة الفاكهة بحجّة إجراء تحقيق واقتيدوا إلى وادي الرعيان وهي منطقة تبعد عن القاع حوالي 30 كيلومتر حيث جرت تصفيتهم بطريقة وحشية. تقارير سرّية، وثائق رسمية وتحقيقات وردت في الكتاب ترفع الغطاء عن الممارسات الشاذة للسوريين فقد كانت العملية معدّة للاستثمار السياسي والعسكري بحججٍ لم تنطلِ على أحد، ذكر الكاتب أسماء الشهداء وأورد صورهم ووصف المجزرة بكلّ تفاصيلها المقرونة بالغضب الساكن في قلوب الأهالي.
(حرب المئة يوم) تموز-تشرين الأوّل 1978. حربٌ شهيرة في تاريخ المواجهات مع السوريين استمرّت لأكثر من ثلاثة أشهر، توغّل الكاتب عميقًا في لجج المعارك ومناطق الروع بسردٍ دقيق للمواجهات بين كرٍّ وفرٍّ، التدخّلات السياسية، التهجير، الدمار الشامل، الكمية الهائلة من الشهداء والجرحى مقاتلين ومدنيين بالإضافة إلى القصف الهادر كشلّالٍ لا ينضب. كما أورد ما جاء في صحيفتي الفايننشال تايمز والفيغارو والمعلومات الوافية لتعاطي المسيحيين مع إسرائيل بعد انقطاع أمل الحوار مع شركاء الوطن للذود عن التراب وأيضًا بسبب تعرّضهم لحربِ إبادةٍ لا هوادة لها وذُكر الجسر البحري بين جونية وحيفا، أضاء الكاتب على جميع المعارك في هذه الحرب ذات المنحى التهجيري التدميري الهادفة إلى إبادة نسيجٍ بكامله من تركيبة الوطن الفيسفائي الهويّة وقد برزت معركة الجسور نظرًا لموقعها الاستراتيجي وقدرة العدو على العزل في حال فشلت هذه المعركة.
(معركة كور) آب 1978 كالعادة هنالك أسباب واهية لبداية كلّ معركة فقد أخذت القوّات السورية ذريعة من مجزرة كفرحي التي هى عمل مخابراتي سوري لبدء المعركة بحجة تأنيب العصابات، نتيجة هذه المعركة دخل السوريون مناطق مسيحية آمنة هانئة وقرى عديدة اهمها قرية كور الجميلة.
(معركة الأرز) تموز 1978. كالعادة خُبث من العدو والتنكر للوعود، فقد تنكر الرائد السوري علي ديب لجميع الوعود المعسولة التي وعد بها العقيد تامر الجوني قائد القوّات السورية في الشمال وكانت عملية شدّ حبال من طرف واحد. إنتشارٌ، مجزرةٌ في منطقة الأرز، قصفٌ، تنكيلٌ، مواجهات ميدانية وتدخّلات سياسية اشتركت فيها فعاليات عديدة. إنطلت الخدعة على أهالي بشرّي ومنطقتها، فُتحت الطريق بين الشمال والبقاع ببيروت الغربية التي كانت تحت السيطرة السورية بعد تحرير المنطقة الشرقية عقب حرب المئة يوم والنتيجة تنكيل بالأهالي وفرار خيرة الشباب إلى العمق المسيحي.
(العاقورة) تموز 1979. معركةٌ بين الجيش اللبناني بأوامر مبهمة والجيش السوري بأوامر واضحة والسبب هو الضغط السياسي الهائل على قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية آنذاك من قبل نظام الأسد. موضوع الخلاف شقّ طريق من قبل السوريين تصل البقاع بالقرى الشيعية الهانئة في منطقة جبيل عبر جرد العاقورة. كان نجما المعركة الضابطين في الجيش اللبناني بول فارس وناريغ إبراهيميان. معركةٌ من المعارك الكثيرة التي جرى فيها تنسيق كامل ومثالي ولحمة ثنائية رائعة بين الجيش اللبناني والقوّات اللبنانية في مواجهة عدو غاشم للحفاظ على ما تبقى من جغرافية الوطن البائسة.
(معركة قناة) شباط 1980. وصف كلوفيس الشويفاتي هذه المعركة الضارية بدقة متناهية كأنه وضع نظام مراقبة إلكتروني في زمنٍ لم يصلنا من التكنولوجيا إلّا فتاتها، أحصى الرصاص رصاصةً رصاصة، دخل فوهات المدافع مع كلّ قذيفة، كأنه وضع فرضيات المدافعة للمدافعين وفرضيات الهجوم للمعتدين في أفق مثْلِج لم تظهر منه ندفات الثلج بلونها الأبيض فقد استعارت رغمًا عنها اللون الأحمر الصاخب من وهج الانفجارات ودماء الضحايا، إنها من أشرس المعارك التي خاضتها القوات اللبنانية في مواجهة الجيش السوري بعديد محدود وهمم كبيرة نابعة من وطنية صلبة صلابة صخور قناة ممزوجة بالإقدام ونكران الذات، إذا حسبنا نسبة المقاومين إلى عدد القوات السورية المهاجمة تكون بنسبة وزن رشة ملح صغيرة على طبخة كبيرة.
(حرب زحلة) أيلول 1980-تموز 1981. إذا كانت حرب قناة من أشرس المعارك في تاريخ المواجهة بين المقاومين الأحرار وجيش الأسد في لبنان فإن حرب زحلة تستحق اسم أمّ المعارك. الدقّة الموصوف فيها الكاتب انهمرت حبرًا حزينًا في وصف مراحل هذه الحرب من معركة الميلاد إلى معركة قاع الريم الشبيهة بمعركة قناة في شمالي لبنان فعمل لجنة المتابعة العربية ونهاية الحرب، معركة زحلة أخذت الحيّز الأكبر من الكتاب فكانت حوالي ثلث مجلّد مؤلّف من 584 صفحة. ظهر التوافق السوري الإسرائيلي على الخطوط الحمر المتفق عليها في هذه المعركة لاستمرار الموآمرة التي اشتركا فيها لنشر الطائفية البغيضة تنفيذًا لسياسة موضوعة سابقًا، ففي معركة العاقورة حجّة لوصل القرى الشيعية في منطقة جبيل بالامتداد الشيعي البقاعي إمعانًا في الفرز الطائفي وفي معركة زحلة تصريحات ودعم إسرائيلي لشدّ عصب المسيحيين لاستمرار الحرب.
(ثكنة طرابلسي وقصف بيروت) نيسان 1981 إنها المعركة الأخيرى التي ضمّها الكتاب تظهر فيها هشاشة الأوامر العسكرية للجيش اللبناني في ذاك الحين فقد سيطر الجيش على هذه الثكنة عدّة مرّات وفي كلّ مرّة تأتي الأوامر بالانسحاب مما أوقع شهداء لا دخل لهم في السياسة ودهاء ومكر وخضوع السياسيين.
خمسة ملاحق في آخر المجلّد أهمّها ملحق رقم 2 (اغتيال كمال جنبلاط).
ليس اشتفاءً لكن لعنة وطن الأرز لحقت كلّ من تطاول على لبنان من أنكيدو في ملحمة جلجامش وقتله حنبالا حارس الأرز وغضب الإله عليه إلى ذو القرنين وموته بالحمى وإنقسام مملكته إلى الاستبداد العثماني ونهاية أمبراطريته وأخيرًا وليس آخرًا نظام الأسد وما حصل ويحصل له.
مجلّدٌ ضمّ وثائق، مقابلات وإفادات معظم من شارك في المعارك، لكن عند النظر لصور الشهداء و قراءة أسماءهم العديدة التي تخطّت الآلاف يسكنك الحزن، الأسف واللوعة على شبابٍ في مقتبل العمر كانوا حبوب الحنطة التي ماتت في حقل الوطن فأزهت سنابل في ربوع ثورة.
نقلا عن موقع
يوسف طراد
الإثنين 8 تموز 2019