الدمار يطال صالات بيروت الفنية مخلفا جرحا غائرا* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

في حين لا زالت بيروت ترزح تحت هول الصدمة والدمار والحداد على الضحايا والخوف على مصير المفقودين تحت أنقاض انفجار 4 أغسطس المروّع الذي هزّ لبنان بأسره، بدأت أشكال الدمار وأنواعه الأساسية والفرعية تتبدّى وتتلاحق ومنها ما أصاب روح العاصمة المتمثلة بالحياة الفنية / التشكيلية التي طالما كانت تميّز بيروت حتى خلال الحرب اللبنانية.

 

حياة نمت على هامش الحياة، ولكن من منابعها في آن واحد. ولطالما وجدنا في الصالات الفنية ومواعيدها المرتقبة ملجأ من الخراب الداخلي الذي سكبته فينا على مدار السنوات حروب تافهة لم تجلب لنا إلاّ المزيد من الدمار.

 

فنحن عندما ندخل إلى صالة فنية لكي نتأمل في اللوحات حتى تلك التي تتحدّث عن تعاسة البشر أو المآسي المختلفة فهذا يعني أننا نطمئن ذاتنا بأننا على ما يرام، وربما قادرون على تلقي الضربات إن هي اختارتنا من بين البشر.

 

تلك الحياة الفنية المتوقدة التي كانت ولا تزال حاضرة قبل انفجار 4 أغسطس باتت معدومة اليوم. كانت لا تزال تضخّ بصعوبة وإن، لنقل ببطولة، دماءها في شرايين العاصمة وفي ملامحها التي حافظت على رونق أحلام وآمال مشتركة بلغ عمر معظمها أكثر من ثلاثين سنة.

دمار في حاضنات التشكيل الفني وعصف رمادي في روح العاصمة الملونة بالمواقف الشخصية المترجمة بصريا وبالتجارب الفنية الواعدة والمكرسة على السواء. أكثر من 12 صالة عرض فنية دمّرت كليا في حين تضرّر جزئيا أكثر من 20 صالة ومنها صالة “أجيال” في شارع الحمرا لمالكها صالح بركات وكذلك الأمر بالنسبة لشقيقتها صالة “صالح بركات” الموجودة في منطقة كليمنصو العريقة. صالتان قبلتان لعشاق الفن، لم يقدّما يوما أي معرض لا تحلو زيارته والتجوّل في أرجائه.

 

عندما أسّس صالح بركات الصالة الثانية الأكثر رحابة من صالة “أجيال” لم يحد عن رؤيته لبيروت كجوهرة مُضيئة. وقال عند افتتاح الصالة الأرحب من صالة “أجيال” من حيث المساحة “من المعلوم أن المكان الذي  تحوّل إلى هذه الصالة الفنية كان سابقا ‘سينما كليمنصو’، المكان الأوّل في المنطقة العربية الذي عرضت فيه أفلام غير تجارية لكبار المخرجين السينمائيين من أمثال برغمان وفيلليني، وذلك قبل أن يتحوّل إلى مسرح المدينة القديم الذي لعب دورا ثقافيا مميزا هو الآخر.. حينما سمعت بوجود مشروع لتحويله إلى مستودع، انزعجت كثيرا، وقرّرت أن أفعل شيئا للإبقاء عليه كمعلم ثقافي.. وهكذا حدث”.

 

مرّت السنوات واستمر صاحب الصالة في رؤية بيروت من منظار برّاق وشديد العاطفية، واستمر في رؤيتها على أنها حاضنة ومبلورة للتيارات التشكيلية على أنواعها.

 

وعلى الرغم من الموت الذي كان يهدّد البلاد في هيئات مختلفة ظل يراها كما أرادها وأحبها للمرة الأولى: متوهجة، ونزقة، مزاجية ولكن رحبة، تفرد ساحاتها التفاعلية لتتألق فيها حرية التعبير، وخاصة حرية التعبير الفني.

 

اليوم، نسأل وإن كان من المبكر طرح هذا السؤال: هل لا يزال صالح بركات يفكر بهذه الطريقة؟ وهل لم يزل يرى أفقا بعد كل هذا الدمار الذي حل وكأنّه رد متجهم على كل محاولة خلاص تبناها كل ثائر نزل إلى الشارع بداية بـ17 أكتوبر 2019؟

 

صالح، لمن لا يعرفه يبثّ في الآخرين روح التفاؤل في أحلك اللحظات وبهدوء مشهود يدعو أحيانا إلى الابتسام، والانضمام إلى حقل تفاؤله.

 

هو من مواليد 1967، أي من الذين ولد وعيهم في الحرب اللبنانية وفي الآن ذاته نمت روحه على عشق الفن وكل ما يجلب من أفكار ومشاعر تحضّ على التغيير وتشجّع على الحياة.

 

في محاولة للاطمئنان عليه بعد وقوع الانفجار أخبرني أن الأضرار التي وقعت بالصالتين أضرار مادية لا تذكر أمام إصابة فراس الشاب اللطيف الذي كان يعمل في صالة “أجيال” على استقبال الزوار والصحافيين ومساعدة الفنانين على تعليق أعمالهم. بعد مرور يومين على هذا الخبر، لم يتمكن فراس من النجاة من جراحه وأسلم روحه بعد سلسلة من العمليات الجراحية.

 

اليوم صالة “أجيال” بلا فراس وبلا طلة فراس وابتسامته. وبلا الدردشة معه ساعات انهمار المطر الشديد خلال فصل الشتاء، وبلا رائحة قهوة شهية ستبقى لفترة طويلة رائحة خانقة عندما تصعد من فناجين قهوة أعدت خارج منازلنا الشخصية التي خسرها الكثير من الناس في بيروت بلحظة واحدة.

 

لا حديث بعد اليوم معك يا فراس في أيام الشتاء الماطرة جدا عن أشياء الحياة الجميلة البالغة الهشاشة أمام الموت.

 

اليوم صالة “أجيال” ليس لديها ما تقدّمه إلاّ استعراض الجرح وبعض الصور لفراس، لم يعلقها هو (حبذا لو فعل) معلقة على البوابة الحديدية السوداء المغلقة. لن نسأل صالح اليوم عن شعوره؟ أغلب الظن أنه سيكذب ويحيطنا بهالة من تفاؤله المعهود وفي قلبه جرح استقر وعلّق أعماله الفنية على جدرانه.

 

بعد سلسلة من الضربات الاقتصادية مع انهيار قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي والأزمة الصحية بفعل جائحة كورونا وتتابع أفواج ثورة لا زالت تقع لتقف نحيلة في وجه فساد مطلق وقوة مطلقة لسلطة حاكمة تمرّست على كافة أنواع الإجرام، يتلقى لبنان صفعة دامية لحظة الانفجار الهائل يوم 4 أغسطس. تلقاها وهو منهمك يتحسّس وجهه مذهولا من الأخاديد العميقة التي شكلتها الخيبات المتتالية التي تسارعت بنسق رهيب خلال الأشهر الفائتة.

 

بعد خفوت الأمل لم يبق سوى المقاومة. ولكن كم سنصمد؟ وماذا بعد أن أصبح كل هذا عسيرا بفعل الانهيار الاقتصادي ثم صار مستحيلا بعد الدمار الجهنمي؟ كلٌ يشعر اليوم أن الحياة توقّفت، وأنّ ما يحدث يدفع به إلى الوراء، وكأنما السير ممنوع، والتراجع قدر لا بد منه. فسحة الجمال تقلّصت، ضاق بنا المكان، وكان رحبا مفتوحا على الأفق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button