تصورات في لبنان الحائر: واقعية وأوهام وأحلام* رفيق خوري
النشرة الدولية –
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أحيا “رمزية” قصر الصنوبر، إذ أعلن غورو من على شرفته قيام لبنان الكبير في الأول من سبتمبر عام 1920. لكن قصر الصنوبر لم يتغير، وفرنسا لا تزال متمسكة بدورها، في حين تغير لبنان في الواقع. ففي بلوغه الـ 100 عام من عمره بات لبنان الحديث يعاني ما هو أكثر من أمراض الشيخوخة، وإن كان ما يشيخ هو الأنظمة لا الأوطان، فهو تطور في نواح من بينها الحفاظ على الحرية والعيش المشترك بالمعنى السياسي، لا البيولوجي فقط كما في بلدان المنطقة، وممارسة فن الحياة، والإسهام الكبير في نهضة الفكر والأدب شعراً ونثراً، والفن مسرحاً وموسيقى وغناء، في العالم العربي، وتراجع بشكل مخيف في نواحٍ أخرى، مثل تركيب السلطة والعجز عن بناء الدولة كمؤسسة لإدارة المجتمع لا مجرد حكومات وبوليس، واستمرار الخضوع لأمراء الطوائف، فالذين يحكمون ويتحكمون به هم أنفسهم منذ نصف قرن، كانوا في الحرب وظلوا بعد وقفها، وقد يقودوننا إلى “حرب أهلية” ثانية، كما حذّر ماكرون. هم استمروا وتبدل من حولهم. في أميركا وأوروبا مئات الرؤساء والوزراء والنواب. استمروا لا مجرد “ديناصورات سياسية”، بل أيضاً أسرى صراعات المحاور في المنطقة، حيث الغطرسة على اللبنانيين والتواضع والتزلق حيال الخارج.
وليس أمراً عادياً أن يرى وزير للخارجية مثل الوزير الفرنسي جان ايف لودريان نفسه قادراً على تقريع السياسيين اللبنانيين بالقول إنهم “يدمرون أنفسهم وبعضهم بعضاً لتحقيق إجماع على التقاعس عن العمل” حتى وسط مخاطر تهدد بـ “اختفاء لبنان”، ولا بالطبع أن يتحدث أكثر من مسؤول إيراني عن لبنان كجبهة أمامية لإيران التي صارت تحكم “أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء”، فلا صوت أعلى من الصمت حيال سلاح “حزب الله” خارج الشرعية، ولا علاقة بين الواقع وبين قول الرئيس ميشال عون لمجلة “باري ماتش” إن “حزب الله ملتزم بالقوانين والأنظمة اللبنانية، ولا يستخدم أسلحته إلا كمقاومة للدفاع عن البلد ضد إسرائيل”، وكأن “حزب الله” يسوح في سوريا، وكأن انخراطه في حرب سوريا “مبرّر” في رأي رئيس الجمهورية بالقول إنه ليس وحده هناك.
وما أكثر الأوهام والأحلام وسط الحاجة إلى الواقعية لتغيير الواقع، ففي المئوية ثلاثة تصورات على الأقل، أولها إصرار أوساط مسيحية على رؤية لبنان كما كان عندما ولد كمشروع ماروني على أيدي فرنسا والمقر البطريركي و”مجد لبنان أُعطي له”، أي التصور أنه باقٍ مثل الأرز، وما ينقصه هو بعض الإصلاحات واستمرار عناية العرب والغرب به. وثانيها تصرُف أوساط شيعية، خصوصاً في “حزب الله”، على عكس وصية الشيخ محمد مهدي شمس الدين بأنه ليس للشيعة مشروع خاص بهم، وكأن لبنان وُلد ثانية مع “المقاومة”، وعلينا نسيان لبنان الذي عرفناه، لأننا على الطريق إلى لبنان آخر ضمن مشروع امبراطوري إيراني.
التصور الثالث هو ما في اقتناع النخب والأوساط العادية والأجيال العابرة للطوائف من أنه ليس على جدول الأعمال حالياً حلول جذرية وكبيرة للأزمة البنيوية في النظام الطائفي، فالممكن والملح والضروري هو بدء الإصلاحات والاتفاق مع صندوق النقد الدولي لضمان تدفق المساعدات المالية، بما ينقذ لبنان من هاوية الأزمات النقدية والمالية والاقتصادية، والباقي بعد أن يصبح لبنان في وضع فوق الصفر المالي والاقتصادي، حين تدق ساعة الإصلاح السياسي، واعادة تكوين السلطة عبر انتخابات جديدة.
لا أحد يعترف بأن تصوره في خانة الأوهام أو الأحلام، فحتى الواقعية تبدو كأنها خارج الواقع، لكن الوقت حان لأن نعترف بأن المشكلة والحل عندنا، لا في الشرق ولا في الغرب. ولن نخرج من الازمات بالاعتماد على الغرب، ولا بالدعوات إلى التوجه نحو الشرق، من دون أن نفعل نحن ما علينا، وأقل ما علينا هو تطبيق قول جيمس ماديسون “إن الولايات المتحدة هي حكومة قوانين لا رجال”، بإقامة جمهورية قوانين لا جمهورية أمراء طوائف.