الغد المفقود في حكاية ريما بالي… ماذا لو توقفت الأزهار عن عبادة الشمس؟* محمد سمير ندا

النشرة الدولية –

في تجربتي الأولى مع الروائية السورية ريما بالي، من خلال روايتها الثانية “غدي الأزرق”؛ استمتعت كثيرًا بانسيابية الحكاية، وترابط فصولها، علاوة على الرمزية البارزة في نسيج القصّ، والرسم المتقن للشخوص بطول خط الرواية.

 

نحن إذن أمام رواية محكمة البناء، كتبتها ساردة متألمة، تجيد ترتيب أدواتها واستخدامها بانسجام ملحوظ، فاللغة هنا بسيطة ومعبرة في آن واحد، ابتعدت الكاتبة عن تقعير المفردات والتنقيب في المعاجم واستيلاد التعابير من بطن الزمن، وأنا هنا أود أن أشير إلى روايتين عربيتين قرأتهما مؤخرًا، واستوقفني أن حفلتا بتعابير واستعارات وتشبيهات كثيفة يمكن أن يستخلص القارئ من أي منهما كُتيب صغير من الاقتباسات، إلا أن الخط الروائي للروايتين المعنيتين جاء ضعيفًا، والحبكة واهية كنسيج عنكبوتي أنهكه النسيان، أما هنا، وأنا أعني “غدي الأزرق”، فالأمر على النقيض، لغة بسيطة وعذبة ومعبرة، ومناسبة للحدث، وحبكة مقنعة، وخط روائي متماسك.

 

ندى، شابة سورية أشبه بزهرة عباد شمس، تتفتح بتلات حياتها كلما أشرقت عليها شمس الحبيب “نبيل”، فيما تذبل وتتهدل أوراقها بغيابة، أسلمت ندى مفاتيح مدنها لحبيبها، واستعذبت العيش في أسره، وتحت وطأة حضوره، حتى جاءت الحرب لتدعس آلات دمارها وحيدها، غدي؛ الغد الذي شتلت فيه كل الوعود المؤجلة، وارتضت بحياة تستكمل فصولها المنقوصة من خلاله. جاء موت غدي ليزلزل جدران المدن كلها، هدّم بغيابه كل الأسوار التي تشرنقت ندى خلفها طواعية طيلة أربعة عقود، وقشع الضباب عن وجه الحبيب، الذي تحول إلى وزير في حكومة الأسد، لا يجرؤ حتى على نعي وحيده بكلمات صادقة.

 

تقرر الأم المكلومة الرحيل عن وطن ما عادت تنتمي له، وهجران حبيب تعودت أن تطالع العالم كصورة منعكسة في عينيه، تغادر مصطحبة طيف تمثال جان دارك، وحكايتها التي استعادتها من أدراج الذاكرة. وفي ميتز؛ تتكور كجنين ينشد ميلادًا جديدًا، وحياة بديلة تبدأ فصولها في منتصف الأربعين، وعكازها أمل في أن تولد حكايتها مغايرة لقصة جدتها، عن زرقة تبزغ بعد فوات العمر.

 

من خلال عملها كممرضة في أحد الملاجيء الصحية، تتقاطع مساراتها مع مارتا وإيفا، زهرتي عباد الشمس الأسبانيتين، المصابتين بالإيدز تقترب منهما فيما تمرران أيامهما في خنوع واستسلام، إثر حكاية قهر تتكشف تدريجيًا، عن طاغية آخر، انتزع منهما الحاضر والغد، وغاب فتنكست أوراقهما، وقد آثرتا الإنسحاب، والانتحاء إلى ظلام لا يعرف من ألوان الحياة سوى الأسود.

 

تتشابك حكاية ندى بحكاية شاب أوكراني، هو في واقع الأمر هارب آخر لفظته الحروب، تتكون قصة الحب بنعومة كتجمع قطرات الندى، وندى تستعيد غدي في وجه الحبيب، وتميز ألوانًا مغايرة لألوان الحداد، قبل أن تجمع الحبيبين رحلة سفر تستهدف كشف الملغز والمخبوء من حكاية التوأم الأسباني، رحلة دون كيشوتية يتعتق في أسفارها الغرام، وينصهر فيها العاشقين كرمز لحياة جديدة تلوح في الآفاق.

 

تُسفر الرحلة عن أمل تسترده إيفا، وحياة بديلة لندى يترسخ بنيانها يومًا بعد يوم، رغم حيرتها بين ثياب حداد تليق بأم ثكلى، وزرقة حافلة بالوعود تعبد الطريق أمام استمرارية العيش، إلا أن الماضي يطل بوجهه الدميم قرب النعاية، ليهدد ميلاد الغد، ملوحًا بانتزاعه، مرة أخرى.

 

هي دعوة للتمرد، والشب عن طوق المألوف والمعتاد، دعوة لنبذ الحرب لحساب الحب، تخطها الكاتبة عبر سؤال تتناسل أصداؤه بطول الصفحات؛ ماذا لو توقفت أزهار عباد الشمس عن ربط مصائرها بحضور الشمس وغيابها؟ ماذا لو ثارت على ميثاق الشروق والغروب؟ ماذا لو توقفت الشعوب عن ربط مصائرها بالحاكم؟ وماذا لو توقفت النساء عن ربط مصائرهن بالطغاة من العاشقين؟ كلنا غدي، وكلنا مكلف بالتشبث بغد أفضل، وأهدأ، وأكثر سلامًا من الأمس. تدعونا الكاتبة إلى المضي قدمًا، أن نطوي الطريق تحت أقدامنا حتى يكشف عن آخره، تدعونا إلى استحضار روح جان دارك الحرة التي لا تهادن، إلى محاربة الأيام بغية انتزاع الأزرق من ثنايا أسود الظلم وأحمر الحرب قبل فوات الأوان، حتى لو أضطررنا إلى محاربة طواحين الهواء!

 

من الرواية:

“جربي أن تنثري بعضًا من بذور هذه الأزهار في تراب حديقتنا، ولكن ليس الآن، فهو مشبع بالدماء. وهكذا، فقد تزهر أزهارًا ميتة. عليكِ أن تُقلّبيه قليلاً، لينفذ النور إلى أعماقه الرطبة، قبل أن تُلقي بالبذور، التي قد تزهر يومًا ما موسمًا جديدًا”

 

رواية مؤلمة، صادقة، محكمة البناء، سرد هادئ دون تكلف، لغة رصينة تتسق مع نسق الأحداث، ونص يعدنا في مجمله بانتظار المزيد من كاتبته.

 

رواية أنصح بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى