مجهر ماكرون يلاحقكم من باريس إلى بيروت: الإصلاحات أو العقوبات* نوال الأشقر
النشرة الدولية –
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يطرح نفسه راعيًا لعملية إنقاذ لبنان في مئويته، يتعامل مع مسؤولي هذا البلد المنكوب وفق المثل اللبناني “لحاق الكذّاب عباب الدار”. “الرؤساء والمسؤولون ومن لديهم السلطة والنفوذ في بلدكم تعهّدوا أمامي بخريطة طريق الإصلاح، وبأنّ الحكومة ستتشكّل بغضون خمسة عشر يومًا”، قالها ماكرون على مسمع العالم أجمع في مؤتمره الصحافي الختامي من القصر نفسه حيث أعلنت بلاده ولادة “لبنان الكبير” قبل مئة عام . وللتأكد من تنفيذ ما تعهدوا به، عائد في زيارة ثالثة في كانون المقبل، خصوصًا وأنّ فرنسا خبرت جيدًا كيف أنّهم بارعون في المراوغة وشراء الوقت، وفساد الكهرباء أبرز دليل.
الرسالة الأقوى التي مرّرها ماكرون في مؤتمره الصحافي تمثّلت بسيف العقوبات المسلط على متورطين بالفساد، فيما لو واصلوا نهجهم السابق. هنا حاول ماكرون ألا يتبنّى بالمطلق نظرية العقوبات، إذ راوغ ردًّا على سؤال صحافي بالقول “أنا لم أتحدث عن العقوبات على المسؤولين، تحدثت عن الثقة بأنّه ما لم يتحقق ما وعدوا به سأشرح للشعب اللبناني أنّ المسؤولين عندكم لم يلتزموا، ولن يفرج عندها المجتمع الدولي عن المساعدات المالية”. لكّن ماكرون وفي معرض ردّه المطول على السؤال نفسه عاد وأكّد على العقوبات صراحة “من المحتمل فرض عقوبات موجّهة إلى السلطات اللبنانية في حال ثبوت فسادها، وسيتم تنسيق ذلك مع الإتحاد الأوروبي”. إذن التلويح بالعقوبات لم يعد مجرّد مقال صحافي في صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية، يحتمل التصديق والتكذيب في آن، بل باتت عصا العقوبات حقيقية مخجلة مرعبة ومؤلمة في آن، خافوها ففعلت فعلها في التكليف، ويعوّل الفرنسي على قوّتها في التأليف والإصلاح.
الشعب اللبناني الخائب اليائس والمحبط من إمكان حصول تغيير حقيقي، حمّل مهمة ماكرون أكثر مما تحتمل، لا بل وجد فيه المنقذ، وألقى بما فشل في تحقيقه على الزائر الفرنسي، بحيث أوقفته مجموعات لتشكو له فساد السلطة الحاكمة وقمعها للحريات، وتعاتبه لجلوسه إلى طاولة هؤلاء، بمن فيهم الحزب المسلّح، وكأنّ ماكرون مندوب سامي، بيده أن يقيل هؤلاء ويعيّن بفرمان واحد رؤساء مكانهم . وهو ما انغمس فيه الصحافيون أيضًا من خلال أسئلتهم، ما دفع ماكرون إلى إعادتهم إلى الواقعية “ما تحلمون به غير موجود ولا أستطيع أنّ أقدّمه لكم…أعرف النظام الديمقراطي في لبنان وأنتم إنتخبتم السلطة، ولا أعين هنا رؤساء أو قادة وإلّا أكون أتجاهل السيادة اللبنانية”.هذه الواقعية نفسها جعلته يجيب بشكل مسهب عن المقاربة الفرنسية لـ”حزب الله” ودوره في الحياة السياسية اللبنانية، والفصل بين جناحيه العسكري والسياسي “يمكنني أن أندد بالحزب، وأن أقول لكم يجب شجبه ونزع سلاحه، وبعدها أغادر فيما تبقى مشكلتكم”.
أمّا الحكومة الذي بدا متفائلًا بتشكيلها بغضون أسابيع وربما أيام، فمنحها فترة سماح لثلاثة أشهر، لتنفيذ برنامج إصلاحي واضح ومحدد، يشكّل مدخلًا للحصول على سخاء المجتمع الدولي لمساعدة لبنان على إعادة الإعمار من خلال مؤتمر دولي تنظّمه فرنسا، “وإذا كان السياسيون في لبنان عند إلتزاماتهم فسنفي بإلتزاماتنا، ولن نقدّم شيكًا على بياض، وأتوقع أن تنفّذ الحكومة الوعود خلال ثمانية أسابيع”.
في الخلاصة غلّف ماكرون مبادرته بمنحى إنساني تاريخي زمني وسياسي، كما وأثبتت زيارته الثانية للبنان في غضون أسابيع، بمحطّاتها كافّة، الفيروزيّة والتراثية والإنسانية والصحية والتعليمية الأكاديمية والسياسية، وبمؤتمره الصحافي الختامي المطوّل، أنّ الرجل عارف بأدقّ تفاصيل السياسية اللبنانية، وبمكر الحاكمين المتحكّمين في مصير المولود الذي أشرفت بلاده على ولاته قبل مئة عام. ربما الأمر الوحيد الذي فاجأ الزائر الفرنسي، أن ينسحب أحدهم من غداء عمل جامع في مقرٍ رئاسي على خلفية تقديم النبيذ اللبناني، ولو أنّ تعليلًا لاحقًا ربط الإنسحاب بموعد سابق.