مسرحية من تأليف مفلح العدوان: ‘سجون’ الأردنية في ذاكرة مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي

النشرة الدولية –

ضمن العروض المسرحية المتميزة في ذاكرة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي 27  أونلاين، الذي يُنظم من 1- 11 سبتمبر/ايلول الجاري، ستُعرض مسرحية “سجون” الأردنية، تأليف مفلح العدوان وإخراج الدكتوره مجد القصص، إلى جانب ثمانية عروض من مصر وروسيا والعراق وأيطاليا وأوكرانيا والنمسا، وأذربيجان، سبق أن قُدّمت في الدورتين 20 و 22 من المهرجان. وسيكون بإمكان الجمهور مشاهدة هذه العروض على موقع المهرجان و”يوتيوب”.

يتألف عرض “سجون”، الذي يأتي في وقت عصيب تقبع خلاله البشرية في سجن الوباء الكوني، من لوحات عديدة تمثّل: الميلاد، التكوين، المدرسة والعائلة، اعترافات المجمتع، البراءة والأمل، الأوامر والنواهي، المعرفة التكنولوجية، السجون السياسية، عذابات القبر والنهاية.

ويجسد العرض، الذي يستثمر “فيزيائية الجسد”، ويرتكز على سيناريو محكم يتصاعد بوعي ورشاقة، عبر هذه اللوحات السجن الذي يرافق الإنسان منذ وجوده داخل الرحم إلى أن يفارق الحياة إلى مثاوه أو سجنه الأخير، فهو سجين نشأته وأفكاره وتجاربه ومواهبه وقدراته النوعية، وظروف الحياة الخارجة عن إرادته، وعجز اختياراته الظاهرية، التي تحكم باطنها فروض إجبارية.

تتوالى اللوحات المشهدية، التي يؤديها ثمانية ممثلين وممثلات (أحمد الصمادي, أريج الجبور, سارة الحاج, عبير عواد, لارا صوالحة, محمد عوض، موسى السطري ونبيل سمور), وتتوالى معها السجون، بالإيقاع نفسه: سجن السياسية، وسجن الاحتلال الذي يمارس سطوته فيقهر الشعوب الضعيفة ويسحق أحلامها، سجن الأسرة والعلاقة المرتبكة بين أفرادها، سجن المدرسة والقمع الذي يمارسه الأستاذ على الطالب، سجن الأنوثة الذي تشيده السلطة الذكورية. ثم يبدأ السجان (أديب درهلي) رواية تفاصيل سجنه، كاشفا أنه الوحيد الذي يملك المفاتيح التي تحرر الآخرين من سجونهم، ومحرّضا الجميع على البوح الذي هو الطريق الوحيدة للخلاص، وكسر جدران الصمت.

وفي تلك اللحظات، يتململ الجميع ويحاول كل منهم العثور على مفتاحه بالحديث عن معاناته، وتقديم اعترافاته، فيلتقي الطفل والشاب والشيخ، ساعين إلى شق الجدار وتمزيق الأغلال، كي يجد النور طريقه إليهم.

المتلقي يلحظ حضورا نسويا واضحا في صياغة رؤيته ومشاهده، يمكن أن يأخذنا، كما يرى الناقد نزيه أبو نضال، إلى عالم الرحم

وهكذا تمتد اللوحات الوجودية، وينكمش الحوار الذي عملت المخرجة على تشظيته وتوزيعه على الشخصيات الثماني إلى أقصى درجة لتحل محله مشاهد بصرية شديدة الإبهار، يتضافر فيها الرقص الحديث مع التعبير الجسدي، أو الكريوغرافي (تصميم دينا أبو حمدان)، والموسيقى، ومؤثرات الصوت والغناء (للمؤلف الموسيقي وسام قطاونة)، في مزج متقن, يخاطب العقل والقلب، وتبعث التكوينات الخلابة فيضا من التساؤلات حول الحس الفني الثري، والإدراك العميق لمفهوم المسرح، كفكر وفن ومتعة.

ويأخذنا التشكيل السينوغرافي (تصميم جميلة علاء الدين) في العمق إلى واقع رمادي غائم يوحى بالبرودة والغياب، فالقضبان تشاغب مفاهيم القيد، والجدران والحوائط والمرايا كلها سجون، وعناق الضوء مع الصوت يأخذنا إلى الأجساد المعذبة بصراعات الميلاد والحياة، وتظل وجوه الممثلين، التي تحولت إلى ماسكات متحركة، تكشف عن اشتباك الجنس بالغرائز والرغبات الوحشية، وحين تتسع الأغلفة وينتصر الإنسان على قيده الأول ويخرج من سجن العدم، نعايش ايقاعات الوجود وتتحول فضاء العرض إلى مجال يموج بالضوء والحركة والبحث والعذاب، ونرى الشخصيات وهي مكبلة بالسلاسل، حيث عذابات الواقع والكلمات والأسرار والدم المسفوح، وانهيارات القيم، وتمتد مؤثرات الصوت لترتبط بإيقاعات الحركة الحديثة، وتكشف الحوارات القصيرة الساخنة عن الإنسان عندما يصنع تابوهاته.

وبهدف وضع المتلقي في أجواء السجن، استخدمت المخرجة مجد القصص مفردة الإيقاع (محمد طه)، التي هي “لغة التخاطب في السجون، فالطرقة الواحدة مثلا تعني حرف الألف، والطرقتان حرف الباء..”، كما استخدمت المرآة المرآة التي سببت للحضور انزعاجا غير خاف، لكن عن قصد، لتجعل المتلقي يعيش،حضور نسوي ولو للحظات، معاناة السجناء وهم يتعرضون لضوء الكشافات الباهر الذي يُفقدهم القدرة على الإبصار.

وفي جانب من العرض يلحظ المتلقي حضورا نسويا واضحا في صياغة رؤيته ومشاهده، يمكن أن يأخذنا، كما يرى الناقد نزيه أبو نضال، إلى عالم الرحم، وانطلاق النطفة الأولى، حيث الجسد أسيرا بحبل السرّة في سجنه الأول، فتبدأ الرغبة الإنسانية بمحاولات الانعتاق، ويعلو الصراخ بالضغط على الجدران والأغلفة بحثا عن كوة عبور نحو الحرية والحياة، لكن الشخصيات تظل  في النهاية على الأرض أسرة سجونها تجرجر قيود عبوديتها وأثقالها، فحبل السرّة لم يقطع، بل كان ذلك وهما، إلا إذا تمردت على الراوي والسجان “لابد أن يكون هناك خيار آخر، لم تنته الأسئلة ومازالت الأجوبة. ذلك الثقب الذي فتحناه في الجدار أصبح كوة ثم أصبح هوة… بدأنا بقصيدة لدرويش “آه ما أقسي الجدار/ عندما ينهض في وجه الشروق/ ربما ننفق كل العمر كي تثقب ثغرة/ كي يمر النور للأجيال مرة”، رغم أن الراوي لا يحتكر الحقيقة، بل يتيح للجميع أن يتقاسموها، لذا تتوزع الحوارات بين الممثلين، شهودا وضحايا، ويرسم كل منهم صورة لعلاقته بالسجون المختلفة التي يعزز أحدها الآخر. أما االمرأة المولودة والموؤدة سلفا فعليها أن تتمرد بشروط أقسى ضد السلطة البطرياركية للذكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى