سرعة التكليف تكشف هشاشة الطبقة السياسية في لبنان* تاج الدين عبدالحق

النشرة الدولية –

سر لبنان السياسي، ومفاتيحه، في الخارج، خاصة بعد استعصاء حلول الداخل. هذه الحقيقة المعروفة تتجدد مع الإعلان عن نجاح الاستشارات النيابية الملزمة، في تكليف رئيس جديد للحكومة، خلال زمن قياسي لم يتجاوز 5 ساعات، بعد أن كانت هذه المهمة من المهام المعقدة التي كانت تحتاج في بعض الأحيان شهورًا من الأخذ والرد، وماراثونات من التشاور العابر للطوائف والحدود.

وبقدر ما تركت سرعة التشاور والتكليف من ارتياح، فإنها كشفت بوضوح هشاشة التركيبة السياسية اللبنانية، وجسدت مدى ارتهان الطبقة السياسية لأوامر الخارج، وللتوافقات بين قواه الإقليمية والدولية.

الميزة هذه المرة، أن رئيس الحكومة اللبنانية المكلف مصطفى أديب، ليس في عنقه جميل لأحد من رموز الطبقة السياسية اللبنانية، حتى لو كان النواب هم الذين يبصمون على تسميته، ويصادقون على تكليفه، فالتكليف ما كان ليتم لولا التدخل الفرنسي المباشر، ولولا جهود الفرنسيين ومساعيهم إلى تحقيق إجماع عليه مع قوى إقليمية ودولية.

حدود التوافق على تشكيل الحكومة لن يكون عند حدود تسمية الرئيس، ولا حدود التشكيل، وتوزيع التمثيل، بل قد يشمل أيضا التوافق على البيان الوزاري الذي سيتقدم به الرئيس الجديد لمجلس النواب؛ لنيل ثقته، والمصادقة على ما لديه من برامج وأولويات.

في العادة، لا يخرج البيان الوزاري عن معادلة التوافق بين القوى السياسية اللبنانية الداخلية، وعمقيها الإقليمي والدولي، ولذلك ظل البيان صيغة هلامية عامة، تجمع رؤى سياسية، ومصالح متباينة، حول ما يمكن التوافق عليه، لا على ما هو ضروري أو ما هو أولوية، وكانت صيغة البيان في الغالب جوامع لمزايدات سياسية، وقواسم مشتركة لمحاصصات حزبية وطائفية.

وقد ظل البيان الوزاري على الدوام، ومنذ سنوات طويلة وبالتحديد مع كل الحكومات التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج سوريا من لبنان، نصوصا ثابتة لا تتغير، ولا تتبدل، حتى لو تغير اسم الرئيس المكلف، أو تغير المناخ السياسي المحيط بالتكليف.

إذ ظلت محاولات تعديل تلك النصوص تصطدم بمقاومة في الداخل، وضغوط من الخارج، وظلت بسبب ذلك قدرات الحكومات المتعاقبة على إيجاد حلول حقيقية لمشاكل لبنان الداخلية مشلولة، وطاقاتها معطلة، على وقع المزايدات والمواقف السياسية، التي ظلت تقف حجر عثرة في وجه أي محاولات للإصلاح، وأي مسعى لإخراج لبنان من أزماته المعيشية المزمنة، والاختناقات العديدة في حياته اليومية.

اليوم يبدو الأمر مختلفا، فمهمة الرئيس المكلف مصطفى أديب، مهمة غير، كما في الأدبيات الخليجية. فهو لايأتي من كواليس الطبقة السياسية الحاكمة، بل من خارج السياق العام الذي كانت عليه صيغة تشكيل الحكومات السابقة، وسمعته ومكانته الخارجية تطغيان على إرثه المحلي، كما أن مطلب الإنقاذ الذي يُلح عليه اللبنانيون منذ زمن، بات هذه المرة رهنا بالخارج أيضا، لا بتوافق الداخل فقط ، خاصة أن هذا الداخل فقد قدرته على الإنقاذ، ووصلت الثقة به درجة الحضيض. لذلك فإن البيان الوزاري لحكومة أديب سيكون معنيا بالأساس بإرضاء الخارج الذي يملك ترياق العلاج، ويوفر مستلزماته، ويملك وسائل الضغط لفرضه عند الضرورة.

والأغلب الأعم أن الجهات الخارجية التي أعطت شارة التكليف، كانت تدرك حالة الضعف، وغياب الثقة بالطبقة السياسية، وهي تقدم مصطفى أديب إلى صدارة المرشحين لتأليف الحكومة، وكانت تعلم أن هناك فرصة لفرض برنامج وزاري غير مرتهن للصيغة السياسية التقليدية التي أثبتت فشلها، وباتت مرفوضة في الشارع اللبناني، وغير مقبولة على الساحة الدولية، حيث باتت القوى التقليدية اللبنانية الحالية غير قادرة على جر الحكومة الجديدة إلى مستنقع خلافاتها، والانصياع لتوجيهاتها.

مهمة الحكومة اللبنانية الجديدة ستكون بالدرجة الأولى رفع الركام السياسي الذي عطل عمل الحكومات المتعاقبة وشل حركتها. ورفع الركام يعني التركيز على البرنامج الاقتصادي، وتحسين الخدمات، بشكل يسمح بإعطاء هذه الحكومة مضمونا تكنوقراطيا فعليا يمكن بعده النظر في إصلاح سياسي حقيقي يسمح بولادة مئوية ثانية من عمر لبنان الكبير.

زر الذهاب إلى الأعلى