فيروز وماكرون والصور* نزار السامرائي
النشرة الدولية –
لم تشكل زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الثانية الى لبنان أهمية بقدر ما حازت عليه زيارته للسيدة فيروز في منزلها بمستهل هذه الزيارة وتقليدها ارفع وستم فرنسي.
وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تابعت الحدث بشكل مكثف، وكل ادلى بدلوه في هذا الحدث (الفريد) والذي (ربما) لم يحظ به فنان عربي من قبل.
ورغم كل التفسيرات والتساؤلات التي أثيرت بشأن الموضوع تبقى دلالات الحدث قائمة تبحث عن إجابة ربما لا يملكها الا ماكرون نفسه، وفيروز الذي قيل انها تبادلت حديثا مع الرئيس الفرنسي لم يعرف احد عنه شيء.
وفي محاولة لفهم الصور التي تناقلتها وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي علينا أن نضع الحدث في سياقه العام.
الزيارة هي الثانية في غضون شهر للرئيس الفرنسي الى لبنان، وجاءت على خلفية الانفجار المروع الذي دمرّ بيروت وهزّ العالم اجمع. في الزيارة الأولى دعا الرئيس الفرنسي الى تشكيل حكومة لبنانية جديدة في اسرع وقت بعد استقالة الحكومة السابقة.. واستبقت الأحزاب اللبنانية الزيارة بالاتفاق على مرشح لتشكيل الحكومة اعلن عن الرئيس ميشال عون رسميا عشية زيارة الرئيس الفرنسي.
الزيارة تأتي قبيل إحياء لبنان المئوية الأولى لتأسيسه، والمعروف أن لبنان اقتطع من سوريا الكبرى التي كانت واقعة تحت السيطرة الفرنسية، وأن الرئيس الفرنسي احتفل بالذكرى المئوية للتأسيس بزرع شجرة أَرز، رمز الوطني للبلد المنكوب، فيما قدم فريق العروض بالقوات الجوية الفرنسية عرضاً في سماء لبنان بألوان العلم اللبناني.
اذن ماذا يحمل هذا السياق؟
يشير الكاتب الفرنسي الكبير رونالد بارت في تحليله لصورة على غلاف مجلة باري ماتش الفرنسية لجندي من أصول افريقية يؤدي التحية للعلم الفرنسي الى الدلالات الأسطورية التي تحملها الصورة والدالة على الامبريالية الفرنسية، يقول بارت “ليس شكل الأسطورة رمزا فالاسود الذي يؤدي التحية ليس رمزا للامبراطورية الفرنسية ان له حضورا مغال لاجل ذلك، فهو يقدم هنا كصورة غنية، حية، عفوية، بريئة، لا تناقش. ولكن في نفس الوقت فأن هذا الحضور خاضع ومبعد، وصار كشكل شفاف، يتأخر شيئا ويجعل من نفسه شريكا لمفهوم يأتيه جاهزا، وهو الامبريالية الفرنسية، انها تصبح مستعارة”.
هل ينطبق هذا على صورة ماكرون مع فيروز وهو يقلدها وسام جوقة الشرف في بيتها؟!
ربما نرى أن الكثير من الظروف تغيرت، فلبنان دولة مستقلة ذات سيادة، والامبريالية الفرنسية كما غيرها انحسرت كثيرا، ولكن ما مدى الشعور بالولاء إزاء إخفاقات السياسيين والقادة في إدارة البلدان التي كات مستعمرة؟!
نعود للسياق بمتابعة ما حدث عند تجول ماكرون في شوارع بيروت بالقرب من المرفأ/الفاجعة، لقد خرج مواطنون لبنانيون وهم يهتفون بالرغبة في عودة الإدارة الفرنسية للبلد عسى ان يتخلصوا من “الفساد”.
حتى أن عشرات الآلاف وقعوا خلال ساعات عريضة تدعو إلى عودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان. وتداول البعض صورة “مهيبة” لماكرون مصحوبة بعبارة “تعا وجيب الانتداب معك”. فيما بدأت دعوات لنشطاء في موقع “تويتر” تنتشر لحشد أصوات اللبنانيين حتى يوافقوا على “عودة الاحتلال الفرنسي”، لتخليصهم من “المصير الأسود” الذي يعيشونه. في هذا الإطار، أُنشئ موقع إلكتروني للتصويت واستقطب، في أقلّ من 24 ساعة، صوت 40 ألف لبناني أبدوا موافقتهم على عودة “الانتداب الفرنسي” للبنان.
بالتأكيد لايمكن ان نقارن نسبة هؤلاء بعدد سكان لبنان، فمن رفض عودة أي احتلال او انتداب اكثر بكثير، ولكن الأمر لا يخلوا من دلالات كبيرة.
اذن ماذا يمكن ان نستدل على زيارة ماكرون الى السيدة فيروز، مع العلم انه بعد هذه الزيارة/الحدث التقى قامة فنية أخرى هي ماجدة الرومي، إضافة الى عدد من الناشطين المدنيين.
كتب ماكرون على تويتر، فور وصوله “كما وعدتكم، فها أنا أعودُ إلى بيروت لاستعراض المستجدّات بشأن المساعدات الطارئة، وللعمل سويا على تهيئة الظروف اللازمة لإعادة الإعمار والاستقرار”. فما هي هذه الظروف.
سبق وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الزيارة بالتحذير من أن الخطر اليوم يكمن في زوال لبنان.وطالب لودريان في تصريح لإذاعة “آر تي إل” الفرنسية، بإجراء إصلاحات طارئة، لتجنب هذا المصير. قائلا “إنهم يدمرون أنفسهم بعضهم بعضا لتحقيق إجماع على التقاعس عن العمل. لم يعد هذا ممكنا ونقول ذلك بقوة”. منوها الى ان “رئيس الجمهورية قالها عندما زار لبنان في 6 آب/أغسطس، وسيقولها مرة أخرى عندما يصل إلى بيروت الثلاثاء”.
ان الفرنسيين ينظرون الى انهم حققوا إنجازا كبيرا في لبنان، فهم اسسوا دولة فريدة في المنطقة، دولة ذات حضور ثقافي وفني باذخ، دولة مدنية متطورة، ولكن سرعان ما انهارت هذه الدولة بعدما سقطت في فخ الاقتتال الطائفي واندلاع الحرب الاهلية عام 1975 ومن ثم اللجوء الى نظام المحاصصة وفق اتفاق الطائف عام 1982، والذي ابقى لبنان يسير وفق مرحلة توازن حرجة كثيرا ما تعترضها مطبات، ولاسيما بعد تصاعد الصراع الإقليمي والتدخلات الدولية، وصولا الى الاحداث التي تنبأ بعودة الصراع الطائفي، لينتهي ذلك بالانتفاضة التي اشعلها الشباب اللبناني وتحولت في جزء منها الى صدامات مباشرة، الامر الذي يدعو الى العودة لبناء نظام سياسي جديد يعيد التوازن الى لبنان. وهنا يأتي الحل بالعودة للدولة المدنية وهو ما دعا اليه الرئيس اللبنانية ميشال عون بشكل صريح حين أشار، عشية زيارة ماكرون الذي يدعو إلى إصلاح النظام السياسي، بأن وقت التغيير حان داعيا إلى إعلان لبنان “دولة مدنية”.
وقال عون في كلمة إلى اللبنانيين في الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير: “لأنني مؤمن أن الدولة المدنية وحدها قادرة على حماية التعددية وصونها وجعلها وحدة حقيقية، أدعو إلى إعلان لبنان دولة مدنية”.
فهل زيارة ماكرون للسيدة فيروز التي تعد رمزا وطنيا يلتقي على اسمه اللبنانيون ولا يتفرقون، هو إشارة الى لبنان الماضي، لبنان الدولة المتحضرة المدنية، التي عليها ان تلتف حول رموزها الثقافية، لا السياسية الطائفية. وفي الوقت نفسه التذكير بأن لبنان لازال تحت المظلة الفرنسية، وأن وجوده مرتبطا بهذا الاتجاه بعيدا عن المظلات الأخرى التي جعلت منه بلدا يقاتل بعضه بعضا..
أن صورة ماكرون وهو يقلد فيروز الوسام الفرنسي ربما هي مغايرة في السياق الزماني والمكاني عن صورة الجندي الأسود في البدلة العسكرية الرسمية وهو يؤدي التحية للعلم الفرنسي، لكن تبقى الدلالات قائمة على اسطورية الكلمات والصورة، وكما يذكر بارت نفسه فأنه يمكن ان يكون للمدلول دلالات متعددة، كون المفهوم الأسطوري يتوفر على كتلة غير محدودة من الدلالات.
ويمكننا هنا ان نشير الى أن الوسام الذي قلده ماكرون لفيروز هو ليس الأول فسبق ان منحها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران وسام قائد الفنون والآداب عام 1988، كما قلدها خلفه جاك شيراك وسام فارس جوقة الشرف عام 1998. وبهذا فأن تقليدها الوسام يفقد قيمته الدلالية المباشرة كتريم شخصي ليدخل في الدلالة الرمزية على تكريم “رمزا وطنيا لبنانيا” ارفع وسام فرنسي في ذكرى مرور مئة عام على اعلان دولة لبنان.
ولا اجد في ختام الموضوع ابلغ مما انشدته فيروز عام 1979 في الأولمبيا باريس عندما غنت “باريس يا زهرة الحرية”: اذ قالت في المقطع الأخير من الأغنية “يا فرنسا شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح/عن وطني اللي متوج بالخطر وبالريح/قصتنا من أول الزمان/بيتجرح لبنان بيتهدم لبنان/بيقولوا مات وما بيموت/وبيرجع من حجارو يعلي بيوت/وتتزين صور وصيدا وبيروت”.