“لبنان الكبير” لم يكن “مجرد خطأ”* سوسن مهنا
النشرة الدولية –
وكأن تاريخ هذا البلد لا يمكن أن يسطّرَ إلا معمداً بالدم. لبنان وفي الذكرى المئوية الأولى لتأسيسه، يقف حائراً بين ماضيه وحاضره ومستقبله، لا يملك حرية القرار ولا الاختيار، هو المصدَّعُ من كل جوانبه الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية، فكيف سيحتفل بمئويته الأولى وهو لا يقوى على الدفاع أو حضنِ أولاده؟ الذكرى المئوية للبنان والتي تحلّ في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، تضع فكرةَ هذا البلد على المحكّ، بلدِ التسويات والتفاهمات، هل كانت فكرة إنشائه خطأً منذ البداية؟ هل اكتمل نموّه كدولة؟ لماذا لا يستطيعُ أن ينتقل من جمهورية إلى أخرى إلا بعد حربٍ ودمارٍ وتهجير وتشريد أبنائه؟ وللمفارقة لم يجتمع مسؤولوه مرةً، إلا برعاية دوليةٍ وبعد أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.
الولادة عام 1920
فترة الانتداب الفرنسيّ على لبنان امتدّت بين عامَي 1920 و1943، حيث حكمت فيها فرنسا لبنان بعد سقوط الإمبراطورية العثمانيةِ مع انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبحسب تقسيمات الدبلوماسيَين الغربيَين، السير مارك سايكس من بريطانيا، وفرانسوا جورج بيكو من فرنسا، اللذين أنتجا ما عُرف لاحقاً باتفاقية “سايكس-بيكو”، التي أيدتها لاحقاً قرارات “عصبة الأمم” الصادرة عام 1920 والتي أجازت نظام الانتداب على المناطق العثمانية المتفكّكة بحجة المساعدة في إنشاء مؤسسات للدول الجديدة. في ذلك الزمنِ، كانت متصرفية جبل لبنان مقاطعة عثمانية مستقلة عن بقية الولايات، فقام الفرنسيون بضمّ عددٍ من المدن الساحلية في مناطق جبل عامل وسهل البقاع والسهول الشمالية، لتتوسع المتصرفية وتصبح “دولة لبنان الكبير”، بحسب ما أطلق عليها الجنرال هنري غورو أول مندوب سام للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، من قصر الصنوبر مقرّ السفارة الفرنسية اليوم، في الأول من سبتمبر من عام 1920.
بين الماضي والحاضر
في عظة عيد الميلاد في ديسمبر (كانون الأول) 2019، وجّه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، تذكيراً بفكرة “لبنان الكبير” وقال إن “المشروع اللبناني الإنساني من أجل الحريات والمساواة والعيش المشترك، والذي يشكل نموذجاً ورسالةً في هذا الشرق يجب حمايته”.
لبنان والشعارات
المسار الذي أوصل اللبنانيين إلى نيل استقلالهم عام 1943 كان فعلَ إيمان حينها، مارسته مختلف مكوّناته لبناء مستقبل موحّد لجميع مواطنيه، ورغبة عميقة في العيش المشترك، وهذا ما يدفعهم إلى العودة بعد كل انقسام أو خلاف أو حتى حرب في ما بينهم، للجلوس إلى طاولات الحوار، والاتفاق مجدداً على متابعة الطريق معاً. لكن تحلّ الذكرى المئوية وللمفارقة التراجيدية، مع انفجار بيروت، الذي أتى على كلِ الذكريات التي رافقتها منذ إعلانها عاصمة لهذا البلد، وكل ما جرح وفرّح ورمّمَ قلب بيروت.
يدفع ذلك إلى أسئلة كثيرة منها، أين يقع لبنان اليوم من فكرة إنشائه؟ وهل وجوده كان خطأً؟ هل يتلاشى البلد في خضم التسويات وتغيير جغرافية المنطقة؟ وهل يُراد له أن يكون واجهةً للمشروع الإيراني في الإقليم؟ ما هي الموانع التي تقف في وجه الجمهورية الثالثة، أو ولادةِ لبنانَ جديدٍ؟
غياب مفهوم الدولة
يؤكد أستاذ القانون الدولي، المحامي أنطوان سعد، أن وجود لبنان ليس خطأً، “لكنه قد يكون أُنشئ على أسسٍ غير صلبة، إذ إن المجموعات الروحيةَ المكوِّنةَ للبلد تعمل ولم تزل، للاحتماء بالخارج، وهذا شأن الأقليات وخوفها على مدى العصور، إذ لا ينطبق ذلك على لبنان فقط”. ويعطي سعد أمثلة على أقليات مثل الأكراد والدروز، والأرمن الذين هُجّروا من أرمينيا، مفسّراً التوجهَ نحو الخارج بعدم إعطاء الثقة لمثل هذه الجماعاتِ وبالتالي عدم شعورها بالراحة والاطمئنان الكافيين في البلاد التي يعيشون فيها، “خصوصاً عندما تجنح فئة كبيرة من مؤسّسي لبنان إلى الاحتماء بالخارج، مثل السُنة عندما احتموا بالفلسطينيين، بينما احتمت مجموعات أخرى بالسوريين، ومثلما يفعل الشيعة اليوم باحتمائهم بإيران”.
ويتابع الأستاذ الجامعي “هنا يكمن الخطأ، لم تتّفق مكونات البلد على عقد اجتماعي صالحٍ، ولم تكنِ المشكلة أبداً في الطائفية، لأن الأنظمة الطائفية والتقاليد الدستورية موجودة بكثرة في العالم، ولها حيثياتها التي تتماهى وتتماشى مع النظام الديمقراطي. على سبيل المثال لا الحصر، التقاليد الانتخابية في الولايات المتحدة والتي نشأت منذ توحدت أول 13 ولاية، واستمرت حتى اليوم، تفتقد لبعض المعايير الديمقراطية لكنها مقبولة من قبل الشعب الأميركي، إذ لديهم تمثيل طائفي وعرقي وجندري”. وأضاف “هذا ما نفتقده في لبنان، العقد الاجتماعيّ الذي كان يُفترض أن ينشأ بين مكونات الشعب اللبناني منذ قيام الدولة بحيث يغلّب مفهوم أحكام الدستور والقانون والانتماء الوطنيّ على أي أمر آخر، إذ كلّفتنا الانتماءات الخارجية المختلفة، مثلَ الانتماء إلى مشروع جمال عبد الناصر والقضية الفلسطينية وكذلك الانتماء إلى سوريا، خسائر فادحة، مثلما يكلفنا الانتماء إلى المشروع الإيرانيّ كثيراً اليوم”.
الأيديولوجيات الدينية
يرى سعد أنه “يجب تصحيح مفهوم الانتماءِ وتعزيزه على حساب أيّ أمر آخر. على سبيل المثال الشيعيّ في لبنان فإنه يعلي مفهوم الأيديولوجيا، إذ يريد طريق لبنان من جبل عامل باتجاه سوريا، درعا، وصولاً إلى العراق والنجف وكربلاء، ومن ثم اليمن ومن بعدها مكة. يريد أن يجلس المهدي المنتظر الذي يصفوه بـ “اليماني” (لأنه سيظهر من اليمن بحسب معتقدهم) في مكةَ. هذه الأيديولوجيا تتجاوز مفهوم الدولة والعقد الاجتماعيّ”. ويشرح أنه إذا كان هذا المفهوم صحيحاً، “سنرى حتى الأيديولوجيا الإرهابية تتغلّب على مفهوم الدولة، مثلما حاول أن فعل “داعش”، عندما نادى بدولة العراق والشام لكنه سقط بفضل مكافحة التحالف الدولي له ومواجهته. كما أن إسرائيل أيضاً دولة أيديولوجية بمفهومها التوسّعي”.
أيّ لبنان نريد؟
وعن المحاولة لجعل لبنان في الصفوف الأمامية لمشروع إيران التوسعي في المنطقة، يرى سعد أنه “من الواضح أنه يُراد للبنان أن يكون الجبهة الأمامية للمشروع الإيراني، ولكن تلك الجبهة ترتدّ إلى الخلف، ولا تواجه إسرائيل ولا تستطيع. وعلى الرغم مما كان (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الذي قُتل في غارة أميركية في بغداد) قاسم سليماني يقول إنه يريد أن يمحو إسرائيل من الوجود خلال نصف ساعة لم يجرؤ على إطلاق رصاصة واحدة في اتجاه إسرائيل. حتى الروس لا يجرؤون على مواجهة إسرائيل، وعندما أعطوا صواريخ مضادة للطائرات للنظام السوري، أتاهم تهديد، ومن حينها إلى اليوم نفذت إسرائيل أكثر من 120 غارة، قتلت أكثر من 500 شخص تقريباً، من بينهم مسؤولون، يتوزعون بين إيرانيين وسوريين وحزب الله”. ويؤكد سعد أن “الواجهة الأمامية التي ترتدّ إلى الخلف هدفها تثبيت محورهم الممتدِ من جبل عاملَ إلى مكةَ، وبالتالي احتلالَ العالم العربي، وتشييعه بطريقة أو أخرى، بحيث تتغلب الأيديولوجيا الشيعيةُ على المذاهب الإسلامية الأخرى”.
موانع قيام الجمهورية الثالثة
وعن موانع الانتقال إلى الجمهورية الثالثة، يعتبر سعد أنه “لا يجوز أن تقوم الجمهورية الثالثة في ظلّ وجود أحزاب ديكتاتورية، يبقى القائد فيها إلى الأبد، ويُعامل الجمهور الحزبي فيها على قاعدة الغنمية السياسية”. ويشير إلى أنه “من المؤكد أن السلطة السياسية الحالية ستقوم بعقد صفقات لا تبني وطناً يجسّد حلمَ اللبنانيين بدولة مدنية حديثةٍ”. وشدّد على أن “الديمقراطيةَ تنطلق من مبدأ تداول السلطة من رئاسة البلدية وصولاً إلى الأحزاب والمؤسسات الدستورية”.
وأسف سعد لتزامن ذكرى مئوية “لبنان الكبير” مع انفجار الرابع من أغسطس (آب) في مرفأ بيروت، الذي قضى على وجه العاصمة، وقال إن “مَن وضع المتفجراتِ قادر على أن يضع يده على عنق الجمهوريةِ ويخنق كلّ مؤسساتها ويركّعها، من رئاسة الجمهورية إلى رئاستَي مجلس النواب والحكومة، وقادر على السيطرة، لأن كلّ أركان الدولة منذ الطائف إلى اليوم قاموا بكل شيء، إلا تعزيز مفهوم الدولة بل عزّزوا التجاوزات على مفهوم الدولة”.
التاريخ ليس لعبة
في المقابل، يعتبر الكاتب والصحافي جهاد الزين أن فكرة “الوجود الخطأ” للبنان هي فكرة خاطئة. ويعطي مثالاً عن جدّه الذي كان من معارضي “لبنان الكبير” في جبل عامل عام 1920، وكان من الجيل الذي يريد الالتحاق بالوحدة السورية. ويقول الزين إنه اليوم يعتبر أن جده كان مخطئاً في معارضته لبنان الكبير.
ويشير إلى الغرفة التي استضاف فيها والد جده قائد إحدى “العصابات” (كما كان يسميها الناس حينها) التي حملت السلاح ضد الفرنسيين. ولا تزال تلك الغرفة موجودة في منزل العائلة القديم في إحدى قرى منطقة النبطية جنوب لبنان.
وبرأي الزين فـ “التاريخ ليس لعبة منطق قياساً بالحاضر، بل هو التحوّل الدائم الذي يكشف قوة الحقائق السياسية ويراكمها. ولبنان الكبير هو الدولة الوحيدة في العالم التي وُلدت من شبكة مدارس محلية وأجنبية سبقت وجوده وأنتجت النخبة التي ساهمت في ولادته ككيان. وهذه خاصية هائلة. المشكلة أننا نخلط بين الكيان والنظام. فقد نجح النظام في أن يقنعنا أنه لا كيان من دون هذا النظام الطائفي الزبائني الذي نشهد اليوم كيف أوصل الدولة إلى أزمة وجودية. الخطورة هي أن الطوائف نفسها تتغيّر ولا يتغيّر النظام الذي يزعم حمايتها حتى وهو يأخذها تكراراً إلى المذابح”.
وعن إمكانيةِ تلاشي “المشروع اللبناني”، يؤكد الزين أن “النظام الدوليّ لا يسمح بتلاشي الدول بسهولة”. وأضاف “اليوم نعيش تجربةَ محاولة النظام الدوليّ تغيير النظام السياسي اللبناني لا الكيان اللبناني. وواضح كم تقاوم الطبقة السياسية المهترئة والفاسدة (ولكن القوية) مشروع التغيير هذا”.
المشروع الإيراني
وعن دور إيران في المنطقة، أشار الزين إلى أن “المشروع الإيرانيّ الذي بات يتمركز في لبنان هو مشروع امتداد إقليمي لدولة -أمة قوية ولكن متخلفة حضارياً بمعايير العالم المعاصر. غير أن الدهاء الإيرانيّ حتى الآن يتعايش ويقود التخلف الإيرانيّ بأشكال مختلفة دولية وإقليمية ومحلية”. يتابع أن “هذا المشروع يقوده نظام دينيّ توتاليتاري محاصَر وتزداد محاصرته، إلا أنه مع الأسف لا يزال استمرار التجاهل الإسرائيليِ لحقوق الشعب الفلسطيني، يضخّ عناصر مفيدة له. المستقبل ليس لهذا المشروع ولكن لنقيضه. حمى الله لبنان”. وأضاف الزين أنه “ليس متفائلاً” بولادة لبنانَ جديد حالياً بل “علينا أن ننتظر جيلاً لبنانياً لم يولد بعد على الرغم من كل أهمية الجيل الشاب الذي يقوم بثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. ربما سيأتينا التغيير ذات يوم من الدياسبورا”. (المغتربين اللبنانيين).
نقلاً عن موقع “اندبندنت عربية”