العبث اللبناني المستمر يبقي الحلم الفني ممكنا * ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

لم يستثن انفجار مرفأ بيروت صالة “آرت لاب” بمنطقة الجميزة التي تعجّ بالصالات الفنية الصغيرة؛ عمّ الخراب القاعة بشكل كامل وهي التي كانت قد قدّمت قبل الانفجار معرضا فرديا للفنان اللبناني جاك فارتابيديان.

أول ما صرّح به صاحب الصالة أنطوان حداد بعد الانفجار، وهو يقف متأملا مدى الدمار الذي لحق قاعته، “لا أعرف ماذا أقول.. أعتقد أنه ليس بوسعنا استعادة أنفاسنا والبدء من جديد.. أبلغ من العمر 55 سنة وقد أعدت بناء حياتي مرات عديدة بعد ضربات متلاحقة عبر السنوات. كفى.. لا أريد البناء من جديد، ولا أستطيع ذلك، خاصة مع الكلفة الهائلة التي تحتاجها الصالة لكي تعود كما كانت”.

وأضاف “صالة آرت لاب كانت صالة فنية تسير عكس التيار ولا تتوقّف عن مصارعة مصاعب جمة يعرفها كل من عاش في لبنان. أفكر اليوم جديا في الهجرة إلى كندا. لكنني سأُبقي على آرت لاب افتراضيا عبر موقع إلكتروني. أدين أخلاقيا بهذا للفنانين الذين عرضت لهم وتبنّيت عملهم الفني”.

ما قاله أنطوان حداد شكّل دون أن يدري صاحب القاعة ظاهرة تحدّث عنها بصريا وبإسهاب الفنان اللبناني جاك فارتابيديان في آخر معرض له في الفضاء ذاته. كان ذلك خلال نهاية الربيع الفائت عندما قدّم الفنان معرضا بعنوان “كيف تصنع نمطا إنسانيا”.

النمط الذي تحدّث عنه الفنان في مجمل معرضه، الذي تضمن مجموعة لوحات مشغولة بالألوان الأكريليكية وبضع منحوتات من الورق المقوى والريزن، هو باختصار شديد رتابة لها قوانينها المُؤطّرة وهي مُشبعة بالسلبية وإن بدت في ظاهرها إصرارا على الاستمرار عبر الحفاظ على النظام والتكرار غير المطروح تحت مجهر التساؤلات.

قدّم صاحب الصالة بكلامه هذا تعبيرا صارخا عن جزء أساسي من هذا النمط الجهنمي الذي اعتاده كل لبناني لم يفقد عقله حتى الآن وهو إعادة البناء، دون مساعدة مؤسسات الشأن العام، إعادة البناء بكل أشكاله بالرغم من عبثية الدمار والاستمرار (على الأقل إلى اليوم) وبهتان أسبابه.

قسّم الفنان اللبناني يومها معرضه إلى أربعة أجزاء متجانسة تتحدّث بشكل عام عن مراحل الحياة الإنسانية التي عمد الإنسان فيها إلى تكريس، عهدا بعد عهد، هذه التراتبية المملة: سنين طويلة من الدراسة الصارمة تسرق من الإنسان أجمل أيامه، فالانخراط في العمل اليومي/ الروتيني لأجل تأمين العيش بصعوبة مشهودة، ثم الانتماء إلى زعماء سياسيين قاتلين بمجملهم، علاوة على الرضوخ إلى رجال الدين بمحدودية فكرهم.

نمط لم يعد ممُكنا اليوم الاستمرار فيه بالنسبة إلى الكثير من للبنانيين الذين اعتادوا إعادة بدء دورة الحياة من جديد وكأن شيئا لم يكن، ودون الاقتصاص أو التعويض من مُسبّب الدمار.

ذكر الفنان جاك فارتابيديان أن معرضه بشكل خاص هو عن فكرة التحكم في البشر بداية بطفولتهم وهم على مقاعد الدراسة.. “رسمت وجوه شخوصي دون ملامح مختلفة وبألوان رمادية.. كلهم يقومون بنفس الأعمال الروتينية وبشكل تلقائي وميكانيكي”.

مرّ شهر على انفجار بيروت وبدأت المدينة تلملم أجزاءها وتعيد شبك أوصالها من جديد وكما جرت العادة. البعض يطلق على هذه الظاهرة “إرادة الحياة” والبعض الآخر يقول إنه لا بد من لملمة الشتات مع انعدام أي خيارات أخرى.

في محادثة تلفونية أخبرنا صاحب الصالة بأنه مرت عليه أيام عديدة وهو يُباشر إجراءات مغادرة لبنان، غير أنه ما لبث أن تراجع وأطلق النداء للمساعدة شأنه كشأن الصالات الفنية الأخرى المُدمرة كليا أو المتضرّرة جزئيا.

لبّت مؤسسات عالمية كثيرة النداء، كذلك عدد من الفنانين القاطنين في الخارج ومنهم غير اللبنانيين من الذين سبق أن عرضوا في الصالة. وبدأت إعادة بناء الصالة، وطبعا مع غياب مدوٍّ لأي مشاركة لبنانية رسمية في كل مراحل الترميم.

أخبرنا أنطوان حداد أن الصالة شبه جاهزة للعودة باستثناء قسم منها يتطلب مبالغ مالية إضافية لم يستطع إلى الآن تأمينها.

ما ميّز صالة “آرت لاب” عن غيرها من الصالات، ولعلّها ستبقى كذلك بعد أن تعود إليها الحياة بشكل شبه طبيعي، على الأقل في الأشهر القليلة القادمة، أنها كانت مختبرا فنيا حقيقيا استقطب أعمالا فنية جريئة من لبنان ومن الخارج لفنانين شباب تميزت أغلب أعمالهم بالتجريب، وبأنها أعمال جدلية من حيث الظاهر الفني والمضمون الاستفزازي.

تعود صالة “آرت لاب” إلى الحياة كما وعدتنا صالات فنية أخرى بالعودة. إنها “النمطية” في أبهى حلتها وقد تمرّس بها اللبنانيون سنين طويلة.

نمطية أبت إلّا أن تكون اليوم في عودتها شكلا من أشكال الحياة على الرغم من الموت والاهتراء الذي لا يزال يفتك بالبلد وأهله، وعلى الرغم من دورة حياة قاهرة في رتابتها وخيباتها المتكرّرة بألوان رمادية كألوان الفنان جاك فارتابيديان.

زر الذهاب إلى الأعلى