صفقة القرن العشرين* يوسف طراد

النشرة الدولية –

لغّة الخداع والكذب المباح عند الإنكليز، جاء في يمّ السرد الطويل عبر صفحات كتاب (كرسيفار ربيع 1919) للأستاذ جورج شوفاني في طبعته الأولى 2019، الذي صدر عن دار سائر المشرق للنشر بمناسبة مئوية لبنان الكبير.

كرسيفار روايةٌ من سبعة فصولٍ موزّعة على ثلاثماية وأربعٍ وثلاثين صفحة، تدور أحداثها في بلاد البشارة التي هي جبل عامل، أثاثها تنوع أديانٍ وأوطانٍ لافتٌ للنظر كونها بلدة حدودية من الجنوب اللبناني الحبيب. إن الناظر في مسألة الانتماء يجد نفسه في بلدةٍ محكومةٍ بانفلات المعايير ومصالح الدول الكبرى. تناولت الرواية شكلًا ومضمونًا نادرين في عمقها المشاكس، جوانبَ تاريخيةً واجتماعيةً وسياسية. لذلك نلاحظ أن مجالها اتّسع لتداخل الأنواع الأدبية من أدب الحبّ العذري الذي ظهر أقلّه في فصلين من الكتاب، إلى الأدب الاجتماعي وطريقة العيش في أوائل القرن المنصرم، فالأدب السياسي الذي وصف تأرجح الكراسفة بين خياراتٍ سياسية متعددةٍ.

ميّز الرواية اللهجة المحكيّة، فمعظم أحاديث أبطالها خرجت عن أطر أدب الفصحى، وأتت كما هي خارجة من أفواه ناطقيها، مع الصور الوصفية التي تعبّر عن الفرح الحزن الأسى الاشمئزاز الكياسة الاحترام والنفاق. كون الرواية تناقلت أحداثها من السلف وصولًا للمؤلّف جعلها هذا الأمر مادةً غنيةً للدّرس والتحليل.

تجاوز الكاتب المقاطع الوصفية للأمكنة، حين اكتفى بأسماء الأحياء والقرى المجاورة على جانبي الحدود، كي لا يأتي الوصف على حساب المضامين التاريخية والاجتماعية السياسية التي أسهب في تبيانها بشكلٍ وافٍ شافٍ، يجعل شغف القارىء في ازديادٍ كلّما عبر فكرةً أو سطرًا أو صفحةً. جميع التواريخ للأحداث الدّالة موثّقة في مطلع كلّ فصلٍ يحوي أحداثًا مصيرية، كما أن الشخوص العديدة، وكثرة عقد الرواية، عولجت معالجةً محببةً من الكاتب بإدهاشها ومخاتلاتها وهذا ما نلاحظه بشدّة خلال أحداثها. ضاق الكتاب بالقضايا التي صرّح عنها الكاتب، وإن لم يصرّح بجميعها فقد عملت لهفة القارىء على الوشاية بها.

هكذا دارت القضايا الكبيرة في البلدة الصغيرة، إذا كانت الحرّية صورةً مكتملةً في فكر أبناء القرية، فإن الاحتلال له صورٌ متعددةٌ متشظية متناسلةٌ. أتت الرواية تأريخًا محليًا لفترةٍ قصيرةٍ تمتد من نهاية الحرب الكونية الأولى واندحار جيوش (الرجل المريض) أي الإمبراطورية العثمانية، إلى ما قبل مؤتمر فرساي الذي أُعلن فيه الانتداب الفرنسي على لبنان الكبير بحدوده الحالية ومن ضمنها بلدة كرسيفار. مثل جميع البلدات الحدودية تميّزت كرسيفار بالتجارة المباحة بموجب ترخيصٍ أو التهريب، وكانت سلامة هذه المهنة، تساوي عند البعض أهمّية انتماء القرية وأكثر، جاهلين ما يُحاك من قبل بريطانيا العظمى للمنطقة بعد وعد بلفور، برغم اتِّضاح هذا الوعد لهم بالنصوص وليس بالمضمون، فطريقة تنفيذه كانت مبهمة لديهم، هذا ما جعل القاعدة الشعبية حذرة جدًا ومتعلّقة بالكرسي البطريركي الماروني، متمسّكة بجميع ما يصدر عنها من مواقف.

ثعلبة الإنكليز سعت لضمّ كرسيفار إلى الدولة اليهودية بواسطة زرع الخلاف بين الموارنة والمتاولة، فالتجاذبات السياسية بين لبنان الكبير والمملكة العربية بقيادة الملك فيصل، جعل الرواية على مسار الأحداث التي أسّست لصفقة القرن العشرين. تحقّق حلم كرسيفار، أصبحت قسمًا لا يتجزّأ من لبنان الكبير وابتعدت عن هذه الصفقة، مبعدةً معها الجنوب والليطاني ونبع الحاصباني منبع نهر الأردن أغزر الينابيع.

خلال العقد الثاني من القرن الحالي، في خضم سهولة الاتّصال، الفلتان الأخلاقي، وغياب الحبّ بكلّ معانيه أعادنا الكاتب إلى قصص الحبّ العذري البريء، في زمنٍ كان فيه اللمس عن قصدٍ أو غير قصد خطيئةً وُجب الاعتراف بها. أبرزَ مشاعرَ جياشةً صادقةً، ترجمتها لغّة العيون والعيون فقط بين المحبّين، إذ كان الوصال مستحيلًا محكومًا بتقاليد تحرّم العلاقات بين الجنسين، لتجعلها ساميةً في تدرّجها نحو سمو العلاقات بعد الزواج، وتكامل المحبّين، ليصبحوا جسدًا واحدًا كما قال السيد المسيح.

نوادر الكتاب عديدةٌ، لا تخلو صفحةٌ من نادرةٍ أو حادثةٍ مستغربة في يومنا هذا، كوجود الغزلان بكثافة، ظهر هذا الأمر خلال وصف رحلات الصيد. كما وثّق الكتاب تاريخ اكتشاف الأجران الحجرية الضخمة، أمام مغارةٍ على جدرانها تصاوير أشخاصٍ في قرية قانا، نسبها المسيحيون لعرس قانا الجليل الوارد نصه في الكتاب المقدّس والذي يُتلى مدخل الصوم الكبير في السنة الطقسية المارونية.

تجلّى حبّ لبنان في إصرار الكراسفة على إفهام الإنكليز إنهم لبنانيون (مستر لينلي نحنا لبنانيّي، وين بكون لبنان بنكون)، كما أدركوا بوعيهم ماهية سياسة الإنكليز في كسب ودّ المسيحيين بغية ضمّ أكبر مساحةٍ للدولة اليهودية المزعوم إنشائها (نبّوخذ نصّر لم يسبِ من الشعوب التي قهرها غير اليهود… بعدهِن محسّبين حالهن شعب الله المختار وبدهِن يقيموا دولة داهود من القبر) في ذات الوقت كانوا أمل الخلاص لجميع اللبنانيين (إنتو قادرين تتحاموا بعباية سيّدنا الحويك… إحنا ملناش حدا!). في هذه القراءات المفعمة بالوطنية تجلّى جهد الموارنة الكبير بإرساء الوطن على ثوابتٍ جغرافية ضمّت الجنوب البقاع والشمال.

صحيحٌ أن جورج شوفاني لم يصف لنا عرس إبراهيم ولميا، لكنه وصف لنا عرس كرسيفار، أول عيدٍ لشفيع القرية مار جرجس بعد الحرب الأولى وكارثة الجراد المصحوبة بالريح الأصفر، عيدٌ جرت فيه جميع أنواع المباريات القديمة من شد الحبل والفروسية ودقّ الجرس وغيرها، مباريات جعلت القارىء مسمّرًا بنظره إلى سطور الرواية، كما كان المشاهدون يتسمّرون أمام شاشات التلفاز، عندما كانوا يشاهدون برنامج “الأول على الـLBC” الذي كان يقدّمه المرحوم الأستاذ رياض شرارة.

لماذا يا جورج شوفاني، رسمت لنا تصميم وحلم انتماء كرسيفار للوطن، صلوات آلهةٍ هزمت وجع الحياة وأبالسة الأرض، ولم يتّسع كتابك لأحداثٍ خلال وبعد مؤتمر فرساي، لنتمتّع بوصفك الجميل الواقعي لفرحهم، بانتمائهم الراسخ للبنان الكبير الذي عملوا لأجله من خلال إيمانهم الصادق الواعي بحكمة الكرسي البطريركي الماروني؟

كرسيفار روايةٌ لم تتمايل خبثًا في حضرة الذاكرة الأليمة وأوهام الخلاص، بل وضعت مطاردة الحلم على دروب الزمن الحائر في الوقت الضائع، للوصول إلى المدى الأرجواني الموروث ممّن ترقرقت صورهم المتألّقة على صفحات مياه المرافىء القديمة حاملين صدفات الموركس.

نقلاً عن موقع ” Mon Liban” الإخباري اللبناني

الجمعة 21 شباط 2020

زر الذهاب إلى الأعلى