الورطة التي أوقعنا فيها ماكرون* فارس خشّان

النشرة الدولية –

يرسم الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، في كتابه “دروس السلطة”، بورتريه شيّق لخلفه إيمانويل ماكرون.

ما يهمنا من هذا البورتريه أنّ ماكرون يثق جدا بدبلوماسية الابتسامة والاحتضان، وهو طلب يوما من هولاند تكليفه بحل المشكلة الأوروبية مع اليونان، عندما أعلنت أثينا إفلاسها والتوقف عن تطبيق البرامج المتفق عليها، سواء مع الاتحاد الأوروبي أم مع صندوق النقد الدولي.

وكتب هولاند ساخرا من اقتناع ماكرون بقدرته على حل هذه المشكلة التي لا تحتاج لا إلى ابتسامة ولا إلى إطراء ولا إلى القُبَل، بل إلى تواصل حثيث وضخم، على مستوى الدول وقياداتها ومؤسساتها، نظرا لتحدياتها المالية والاقتصادية والسياسية وتأثيراتها على الاتحاد الأوروبي ككل.

ولكن ماذا تُراه يفكّر هولاند، اليوم وهو يجد أنّ هذا الذي ضربه من داخل بيته الرئاسي وحلّ مكانه، قد تحوّل إلى شاغل الناس ومالئ الشرق الأوسط، بدبلوماسية الابتسامة والإطراء والاحتضان والقُبل والكلمة الطيّبة؟

أُرجّح أنّ هولاند يتوقع لماكرون أن يفشل، انطلاقا من القاعدة نفسها التي سبق لها ومنعته من الموافقة على تكليفه بحل الأزمة الأوروبية ـ اليونانية، لأنّ النكبة اللبنانية تحتاج أكثر بكثير من موافقة مرحلية للقيادات السياسية على السير ببرنامج إصلاحي داخلي تنفّذه “حكومة مهمة”، إذ إنّ لهذه النكبة جذورا طائفية وإقليمية ودولية، وهي متداخلة، بكل ما للكلمة من معنى، في صميم النيران التي تلف النقاط المشتعلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

الطبقة السياسية المنبوذة من غالبية الفئات الشعبية، بسبب ما آلت إليه الأمور، في ظل قيادتها وإدارتها وخصوماتها وصفقاتها، كانت تفتش عن حبل نجاة فرماه لها ماكرون، ممّا أعادها إلى قمرة قيادة السفينة التي سبق لها وشلّعتها

وفي فرنسا، ليسوا قلة هؤلاء الذين يتوقعون أن تفشل مساعي ماكرون، ومنهم من صرّح بذلك وكتبه ووقّع عرائض بمضمونه.

بالنسبة لـ”أنبياء الشؤم”، فإنّ كل مسعى لإنقاذ لبنان لا ينطلق من مبدأ نزع سلاح “حزب الله” المرتبط ارتباطا وظيفيا بالأجندة الإيرانية، سوف يذهب عبثا.

والتجربة اللبنانية المديدة، لا تتناقض مع توقعات “أحفاد كاسندرا الطروادية”، بل تعزّزها، فالحكومات تذهب كما تأتي، والبرامج تتعرقل كما تتقرر، والاقتصاد يتهاوى كما ينمو، والتفاهم يسقط كما يُبنى، والسلم الأهلي يتزعزع كما يستقر، والتعاون يتلاشى كما يبدأ.

التجربة اللبنانية المديدة، بيّنت أنّ كل ذلك يحدث بأسرع من لمح البصر.

لم يكن توقيع “إعلان بعبدا” الذي توافق فيه جميع الأطراف على تحييد لبنان عن صراعات المنطقة وحروبها للتركيز على مصالح لبنان ورفاهية شعبه، يحتاج لا إلى مواصفات ماكرون ولا إلى موقعه ولا إلى اتصالاته ولا إلى “تهديداته”.

احتفل الجميع بتوقيعه، وتلقّفه المجتمع الدولي بالترحيب وتبنّاه بحبور.

ومع ذلك، وعندما صدر أمر العمليات لـ”حزب الله” حتى يدخل إلى سوريا ويحارب إلى جانب نظام بشّار الأسد، نظر النائب محمد رعد إلى القصر الجمهوري في بعبدا وقال لشاغله في حينه، ميشال سليمان:” بلّه واشرب ماءه”.

وما يصح على “إعلان بعبدا” لا يسحب نفسه على “إعلان الدوحة” و”اتفاق الطائف” فحسب، بل على الدستور نفسه.

ومن يتسَنّى له أن يتواصل مع شخصيات سياسية لبنانية توافقت مع الرئيس الفرنسي على “البرنامج الإنقاذي”، يُدرك أنهم يُسلّمون أمرهم له، من دون أن تتوافر لديهم قناعة بأن حظوظ النجاح عالية. إنهم يتعاطون مع هذا التطوّر على أساس أنه مرحلي، لا أكثر ولا أقل.

وتعالت أصوات كثيرة، ولا سيما على المستوى الشعبي، ضد مبادرة ماكرون، على اعتبار أنها تعوّم الطبقة السياسية المنهارة، من جهة، وتضع جانبا مواضيع أساسية ومن بينها نزع سلاح “حزب الله” والانتخابات النيابية المبكرة، من جهة أخرى.

ولكن، ألم يورّط الرئيس الفرنسي الجميع؟

بلى، لقد فعل!

أبعد الجميع عن قناعاتهم الراسخة، ودفعهم دفعا إلى تأييده.

لقد تعاطى مع اللبنانيين على أساس أنهم في مأزق وجودي. هذا يصح على الطبقة السياسية كما على الشعب.

الطبقة السياسية المنبوذة من غالبية الفئات الشعبية، بسبب ما آلت إليه الأمور، في ظل قيادتها وإدارتها وخصوماتها وصفقاتها، كانت تفتش عن حبل نجاة فرماه لها ماكرون، ممّا أعادها إلى قمرة قيادة السفينة التي سبق لها وشلّعتها.

اللبنانيون الطامحون بالتغيير الجذري، وجدوا أنفسهم بين حل من اثنين، إمّا المثابرة في مسارهم وإمّا الوصول إلى الفوضى والجوع، والعيش وسط الدمار المتراكم الذي امتدّ بعد انفجار المرفأ إلى عاصمتهم.

ولم تكن حال الدول الرافضة لواقع لبنان أفضل من حال اللبنانيين في النظرة إلى مبادرة ماكرون، حتى خطاب الولايات المتحدة الأميركية أُصيب بالإرباك، فلم يعد مفهوما، فهي طورا مؤيّدة لتحرك الرئيس الفرنسي، وهي طورا مختلفة عنه. هي طورا ضد وجود “حزب الله” في الحكومة، وهي طورا لا تمانع في مواصلة التعاون مع الحكومات التي تضم “حزب الله”. هي طورا ترى أن “حزب الله” حقيقة سياسية في لبنان، وهي طورا لا تعتقد بأنّ حيثيته السياسية يمكنها أن تكون من دون “الحيثية الإرهابية”.

وكبرى دول الخليج التي من المؤكد أنها ضد تحرك ماكرون لجهة فصله الملف السياسي ـ السيادي عن الملف الاقتصادي ـ المالي، فضّلت أن تلوذ بالصمت.

نجح الرئيس الفرنسي، حيث سبق ونجح جميع من مرروا صفقات سياسية في البلاد على مدى عقود الأزمة، إذ وضع الجميع أمام التحدّي الكبير. قال لهم، بما معناه: أنا، في نظرتي إلى الطبقة السياسية اللبنانية كما في نظرتي إلى “حزب الله” أكثر راديكالية من نظرتكم، وليس أنا من أنتخب السياسيين ولا أنا من سلّط الحزب وتركه يقوى. أعرف تحفظاتكم، ولكن هاتوا حلّا بديلا للخطة التي أعمل عليها.

إن استفاد الرافضون لخطة ماكرون من “الإسعافات الأوّلية” التي سارع إليها، إنقاذا للبنان “المُحتضِر”، فحينها، يضع الجميع “دبلوماسية الإغواء” جانبا لمصلحة “دبلوماسية التغيير”

فعلا، من تراه يملك الحل البديل الذي من شأنه تجنيب لبنان نكسة مستقبلية جديدة، ويحول دون تدحرج اللبنانيين، قريبا جدا إلى حافة الجوع؟

 

حتى تاريخه، ما من أحد يملك القدرة على مواجهة منتِجة مع الحل الفرنسي، على الرغم من أنه “قصير المدى”، بحكم تعقيدات الواقع اللبناني من جهة وبفعل التجارب الكثيرة السابقة، من جهة أخرى.

الرافضون لحركة ماكرون ليس لديهم، على المدى القريب، سوى التمايز هنا والصمت هناك.

يستطيع هؤلاء الرافضون أن يستغلوا “الأوكسيجين” الذي ترفد به باريس الشعب اللبناني، إن كانوا فعلا يأبهون بلبنان، ليضعوا خطة منتجة للمرحلة المقبلة، لأن ماكرون، بقدر ما عوّم هذه الطبقة السياسية والمسؤولين المنبثقين منها، بقدر ما أظهر هشاشتها وأسقطها معنويا من مناصبها الدستورية، وبقدر ما سلّم بدور سياسي لـ “حزب الله”، بقدر ما سلّط الضوء على صفاته “الإرهابية”، وبقدر ما رأى أنه لا بد من المرور بالمجلس النيابي لإنتاج الحلول، بقدر ما أثبت أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى انتخابات ديمقراطية بكل ما للكلمة من معنى.

إن استفاد الرافضون لخطة ماكرون من “الإسعافات الأوّلية” التي سارع إليها، إنقاذا للبنان “المُحتضِر”، فحينها، يضع الجميع “دبلوماسية الإغواء” جانبا لمصلحة “دبلوماسية التغيير”.

لكن، حتى حلول تلك الساعة، فماكرون ورّط الجميع بمسار يرفضه كثيرون.

ولا يمكن لأحد أن يجزم أن فرانسوا هولاند، حين وقع في المركب الذي كان يستقلّه، في “سان مالو” تشجيعا لحملة إنسانية وتكبّد قطبتين في رأسه، لم يكن يفكّر بابتسامات ماكرون اللبنانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى