تكرار صورة ربة البيت في الكتاب المدرسي يؤدي إلى إقصاء النساء وتهميشهن
النشرة الدولية –
بينما تعمل الحكومات جاهدة لسد الهوة بين الجنسين، تشير نتائج الأبحاث إلى ضرورة أن تنصبّ الجهود على تغيير الثقافة المتجذرة في المناهج المدرسية، التي تشكل مفاهيم الأطفال عن أدوار الجنسين في المجتمع منذ المراحل المبكرة من أعمارهم، وقد تلازمهم تلك المفاهيم مدى الحياة فيورثونها لأبنائهم، وهو ما يعني أن ثمة إمكانية كبيرة بأن تتأثر أفكار الأجيال القادمة بالتمييز بين الجنسين الموجود ضمنيا في الكتب.
خطّت النساء مسارا مختلفا بعد الحركات النسوية التي حدثت في السبعينات، ودفعت إلى العديد من الإصلاحات في المناهج المدرسية، إلا أن المرأة ما زالت إلى اليوم تصور في الكتب المدرسية في أدوار تقليدية.
وأرجع بعض الخبراء انعدام المساواة بين الجنسين إلى ظاهرة التمييز بين الذكور والإناث، التي تتوارثها الأجيال عبر مختلف وسائل التنشئة الاجتماعية، ومن بينها الكتب المدرسية.
ويرى الخبراء أن الرسائل التي يستخلصها الأطفال في حداثة أعمارهم من الكتب المدرسية، يمكن أن تستمر معهم إلى حين وصولهم إلى سن العمل وخوضهم غماره، وهو ما يعني أن ثمة إمكانية كبيرة بأن تتشكل بعض أفكارهم ومفاهيمهم من خلال الإيحاءات الضمنية للصور الموجودة في الكتب.
وتظهر الكتب المدرسية النساء بصورة متكررة في دور “ربة البيت”؛ تقوم بالطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال والمسنين، مما يلقي بعبء الأعمال المنزلية بشكل غير عادل على عاتق النساء، على مستقبلها وتوقعاتها الوظيفية.
من الوجهة الظاهرية، تبدو صور الكتب بمثابة وسائل استدلال تعليمية لا ضرر فيها. لكن بعض الباحثين أعربوا عن مخاوفهم من وجود رسائل “مُضمرة” في محتوى المناهج المدرسية، وتنصبّ أكثر الانتقادات شيوعا في هذا الصدد على الطريقة التي صوّرت بها الشخصيات النسائية، والتي ترسخ أفكارا ومفاهيم نمطية، من شأنها أن تضع الكثير من القيود على تطلعات الفتيات ومستقبلهن، فيما صورت الشخصيات الذكورية في الكتب، على أنها أكثر سيطرة لتحظى بالمراكز القيادية والوظائف العليا.
ويحذر الخبراء من أشكال التمييز الخفي في الأدوار بين الجنسين، التي قد يؤدي تكرارها، إلى إقصاء النساء وتهميشهن في الكثير من الأدوار الاجتماعية، أو ما يترتب عن هذه التوجهات المرتبطة بالتمييز من آثار طويلة المدى تنعكس على خياراتهن وحظوظهن الوظيفية عند الكبر.
ويعرف الخبراء التحيز الضمني بأنه أي نوع من الانحياز الذي يتسرب إلى أفكار وتصورات الناس دون وعي أو معرفة مباشرة. ويعدّ التحيز الضمني عادة محصلة للخبرات الشخصية وانطباعات الآخرين، والتفاعل مع المجتمع والثقافة، مثل الكتب والقنوات ووسائل الإعلام.
ويصعب في معظم الأحيان تجاوز هذه التحيزات بسبب طبيعتها المتجذرة في الذهن، وفق رأي مروة بن عرفي، المختصة التونسية في علم النفس السريري.
وقالت بن عرفي في تصريح لـ”العرب”، “تتشكل الصورة الذهنية لأدوار الجنسين منذ مراحل الطفولة الأولى وهذه الصورة تتكون مما يشاهده الأطفال ويسمعونه ويقرأونه ويعيشونه من تجارب ومواقف حياتية”.
وأضافت “دور المرأة التقليدي ما هو إلا صورة ذهنية كباقي الصور التي نخزنها في ذاكرتنا، ونتصرف مع المحيط الخارجي بموجبها وحسبما تمليه علينا تلك الصورة الذهنية، لا حسبما نتطلع إليه أو يحتمه علينا الظرف الاجتماعي، ولهذا لا بد من الإشارة هنا إلى دور الكتب المدرسية التي هي مرجع أساسي للمعلومة الصحيحة والثابتة بالنسبة إلى الصغار، وما تحتويه من رسائل ضمنية يمكن أن تفسر العنف التي تتعرض له النساء في المجتمعات العربية لأن الرجل لا يتقبل إلا أن تقوم المرأة بأدوارها التقليدية ويرفض أن تكون مساوية له في الحقوق والواجبات”.
وترى بن عرفي أن المناهج الدراسية تحاول اليوم أن تواكب العصر عبر الإشارة إلى المساواة بين الجنسين، لكن ذلك لا يزال محتشما، ولم تصل بعد إلى تمثيل كل منهما على نحو منصف في الكتب المدرسية.
وأشارت إلى أن الدروس التي تستخلصها الفتيات من الكتب تحض على تواصل التمييز ضد المرأة، وتشكل أيضا رسالة للفتيان، مفادها أن الفتيات والنساء يجب أن يقمن بمهام التنظيف والطبخ والعناية بالأطفال داخل الأسرة، وهذا يكرس التقسيم التقليدي للمهن بين الجنسين داخل البيت وفي وسوق العمل، ويجعل المرأة تصارع يوميا لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية.
ونوّهت المختصة التونسية في علم النفس السريري إلى أن الآباء مسؤولون بالدرجة الأولى عن عملية تلقين ثقافة التمييز بين الجنسين للفرد منذ الصغر.
وأكدت بن عرفي أن نظرة الأمهات حول المساواة بين الجنسين والعمل والمعتقدات الشائعة تلعب دورا في التنبؤ بنظرة الأطفال تجاه هذه الأمور، إلا أن الطموح المهني، يتأثر بطريقة تعاطي الآباء مع الأعمال المنزلية، ويؤثر ذلك بشكل خاص على الفتيات، حيث يكبرن مع أهداف مهنية أوسع في الأسر التي يتقاسم فيها الزوجان الواجبات المنزلية بطريقة عادلة.
وشددت بن عرفي على أن تقاسم الأعمال المنزلية بين جميع أفراد الأسرة ذكورا وإناثا يكون له في بعض الأحيان صدى أكبر في تحقيق المساواة بين الجنسين، فعندما يؤيد الآباء على سبيل المثال مبدأ المساواة بين الجنسين لفظيا، ويحتفظون بالتقسيم التقليدي للعمل في المنزل، تكون بناتهم أكثر عرضة لتصوّر أنفسهن في وظائف تقليدية.
وحذرت من أن تركيز الحلول المقترحة لهذه الظاهرة على تغيير محتوى الكتب المدرسية لن يجدي وحده نفعا، في ضوء أن النساء المتعلمات والمُمَكنات سيَعُدن في نهاية اليوم إلى المنزل مع رجال سيتصرفون معهن بعنف وسيسيئون إليهن كذلك إذا لم يقمن بأدوارهن المنزلية المعهودة.
وكشفت أبحاث أن النساء ما زلن يتحملن النصيب الأكبر من أعباء رعاية الأطفال وتعليمهم في المنزل، مقارنة بالرجال ونسبة كبيرة منهن يعملن في وظائف بدوام جزئي، بسبب أعباء الأسرة ورعاية الأطفال، كما تجبر الكثير من الأمهات وليس الآباء، على التضحية بوظائفهن، نتيجة تزايد المسؤوليات المنزلية.
ويرى بعض الخبراء أنه من المهم مناقشة كيفية تقسيم الأعباء بالتساوي بين الزوجين، سواء في المنزل أو في المجتمع.
عبدالستار الخديمي: النزعة الذكورية بقيت مترسخة رغم التغييرات المتسارعة في أدوار المرأة عبدالستار الخديمي: النزعة الذكورية بقيت مترسخة رغم التغييرات المتسارعة في أدوار المرأة
لكن بينما يسهل نسبيا تغيير توجهات الجنسين منذ الصغر حيال مسألة المساواة بين الجنسين، إلا أن الأمر الأكثر صعوبة يتمثل في حملهم على تطبيق سلوكيات جديدة في مراحل متقدمة من العمر، والحفاظ على استمراريتها، إذا كانوا يعيشون في مجتمعات مُقاومة لذلك.
ولا تزال هناك صعوبات تواجه عملية تغيير المفاهيم في المجتمعات العربية التي تترسخ فيها الرؤى التقليدية للأدوار الاجتماعية المُحددة بشكل نمطي لكل من الجنسين. فالمرأة العربية تجبر في غالب الأحيان على التخلي عن طموحها المهني من أجل التفرغ لرعاية الأسرة، بسبب القوانين الاجتماعية والتشريعية السائدة التي ما زالت تصنف الأدوار الاجتماعية على أساس النوع الاجتماعي بحكم تقاليد وعادات وأنماط ثقافية متجذرة منذ سنوات طويلة.
واعتبر مدرس التعليم الثانوي عبدالستار الخديمي أن محتوى المناهج المدرسية، ليس إلا صورة حية من ثقافة المجتمعات، حيث تكرّس الرؤى السائدة النمطية أو التي تريد تغييرها. وفي هذا السياق تندرج رؤية المجتمعات العربية للمرأة، فقد دأبت على تنميط دور المرأة في مجتمع ذكوري لا يؤمن – في أغلبيته الساحقة – إلا بالأدوار التقليدية للمرأة.
وقال الخديمي لـ”العرب” إن “التطورات العميقة التي شهدتها المجتمعات العربية في إطار تفاعلها المفروض مع مقومات الحضارة الغربية لم تحل دون ترسيخ رؤية تاريخية تتكرر في كل الأزمان لصورة المرأة في أذهان الناشئة وحتى الإناث منهم، بحيث يتقبلن أدوارهن لاحقا بقناعة ودون مقاومة، فترهن أدوار المرأة في المحافظة على استمرارية النسل بالإنجاب وتربية الأبناء وبالطبخ والحياكة والأعمال المنزلية والتي تجعل المرأة رهينة الفضاء الأسري مكانا وأدوارا، وإن تكرمت هذه المجتمعات وسمحت لها بالخروج فتسند لها أعمالا فلاحية أو أعمالا ثانوية كالتنظيف وغيره..”.
واستدرك مضيفا “لكن مع التطور المتسارع الذي تشهده هذه المجتمعات والذي فرض تعليم المرأة وخروجها إلى سوق العمل في ميادين مختلفة، فشاركت الرجل في ما كان حكرا عليه، وفرضت المرأة نفسها كرقم صعب في التعليم والطب والقضاء والإدارة وحتى في السياسة، وهذا حتّم تغيير محتوى المناهج المدرسية فتكسّرت الصورة النمطية لأدوار المرأة، وتقبل المجتمع العربي -بنسب متفاوتة طبعا – أدوارا اجتماعية تقوم بها المرأة، فرضتها بنضالاتها عبر التاريخ أو أضحت ضرورة منطقية فرضها التطور الحضاري عموما”.
وشدد على أن النزعة الذكورية بقيت مترسخة رغم التغييرات المتسارعة في أدوار المرأة، وإذا لم تتغير العقلية نهائيا لدى المتعلمين من خلال المناهج الدراسية، ولدى عامة المجتمع بإرساء ثقافة المساواة بين الجنسين، بعدما شهد قدرة المرأة على البذل والعطاء والإبداع، فإن الأمر يصبح شكليا لا طائل منه.
ونبه الخديمي إلى أن المناهج المدرسية ليست وحدها المسؤولة عن تحديد المعايير المجتمعية الراسخة في توزيع المهام المنزلية بين الرجل والمرأة، بل ساهمت أيضا الأعمال الأدبية القصصية والروائية، في تنميط دور المرأة من ناحية، ومن ناحية ثانية أخرجتها من فضائها الأسري الضيق إلى فضاء اجتماعي أرحب.
الرسائل التي يستخلصها الأطفال في حداثة أعمارهم من الكتب المدرسية، يمكن أن تستمر معهم إلى حين وصولهم إلى سن العمل وخوضهم غماره الرسائل التي يستخلصها الأطفال في حداثة أعمارهم من الكتب المدرسية، يمكن أن تستمر معهم إلى حين وصولهم إلى سن العمل وخوضهم غماره
وهناك أدلة متزايدة، سواء مستمدة من دراسات علمية أو مستقاة من تقارير أممية، تشير إلى صورة “ربة البيت” التي تحضر بكثافة في المقررات الدراسية العربية، ترسخ ثقافة التمييز في الأدوار على أساس الجنس بين الأجيال، وتحول دون المشاركة الفعلية للمرأة في الدورة الاقتصادية.
وانتقدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، في تقرير سابق لها كيف تظهر النساء بصورة متكررة في الأدوار الثانوية في الكتب المدرسية، والقيود التي يفرضها ذلك على مستقبلها وتوقعاتها الوظيفية.
وأشارت المنظمة إلى أن الرجال يكثر تصويرهم كرؤساء شركات وساسة، بينما تصور النساء في أدوار مثل الطهي ورعاية الأطفال، وهو ما يمثل “عائقا خفيا” للمساواة بين الجنسين.
وقال مانوس أنتونينيس، مسؤول سياسات التعليم بالمنظمة، “ضمان ذهاب الصبية والفتيات إلى المدرسة يمثل جزءا فقط من المعركة”. وأضاف “ما يتعلمونه له نفس القدر من الأهمية إذا لم يكن أكثر أهمية. استمرار التمييز بين الجنسين يقوّض دافع المرأة في التعلم وتقديرها لنفسها ومشاركتها في المدرسة”.
ونبّهت المنظمة إلى أهمية المساواة بين المرأة والرجل والاستثمار في تعليم البنات وتخصيص حصص لمساعدة النساء في الدخول إلى مجال السياسة.
بينما دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الألكسو” إلى تعديل صورة المرأة في المناهج الدراسية العربية، وإلغاء ما تتضمنه من مظاهر التمييز وعدم المساواة بين الجنسين.
وخلصت المنظمة في دراسة سابقة لها حول آليات تعزيز صورة المرأة في المناهج الدراسية العربية، إلى أن المناهج والكتب المدرسية العربية تقدم صورة نمطية للمرأة تتناسب مع النسق التقليدي السائد في المجتمعات العربية.
ولاحظت المنظمة أن هذه الصورة تتجلى من خلال التمييز بين الدور الموكول لكلا الجنسين (الإناث والذكور)، إذ تعطي مكانة أكثر أهمية وإيجابية بالنسبة إلى الذكور تضاف إلى الاختلال الكمي الموجود أصلا بين الحضور الرجالي والحضور النسائي في الكتب المدرسية. وانتقدت “قلة حضور المرأة على مستوى اللجان المكلفة داخل وزارات التربية والتعليم بإعداد المناهج التعليمية وتطويرها، وكذلك ضمن معدي الكتب المدرسية”. ونبّهت إلى خطورة ثقافة التمييز في الأدوار على أساس الجنس دون المشاركة الفعلية للمرأة في الدورة الاقتصادية.
ووسط الجدل المحتدم حول عدم وجود مساواة بين الجنسين في المناهج المدرسية، يبدو أن اتخاذ إجراءات لمعالجة هذه الظاهرة، يتطلب على الأغلب التعاون مع مؤسسات الأسرة والمدرسة والمجتمع المحلي، بهدف تغير الأفكار والسلوكيات التمييزية ضد المرأة، ويمكن أن يساعد ذلك النشء على أن يغيروا مجتمعاتهم بأنفسهم، ولاسيما إذا تم تحديد الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى التصرف على نحو يُميّز بين الجنسين، ومن ثم تطبيق الحلول لذلك على المستوييْن الفردي والمجتمعي.